هل أخطأت روسيا وإيران باعتماد الإغراءات لتركيا؟
ناصر قنديل
– ظهور الحلف الذي وقف مع سورية خلال أربع سنوات مضت وهو يجني أرباحاً ويحقق انتصارات، من روسيا التي صار في مستطاعها التحدث عن استرداد مكانتها بعد حرب أوكرانيا، كدولة يحسب لها ألف حساب، وشريك لا يمكن تجاهل شراكته في الملفات الدولية، التي لن يتردّد الروس عن تعطيلها بألف طريق وطريق، ما لم يقم الآخرون وعلى رأسهم أميركا حساباً لموقفهم، أمر يؤكد أنّ الوقوف مع سورية لم يكن مصدر خسارة، وأنّ الرهان على صمودها وثباتها لم يكن مغامرة، مثل روسيا بل ربما أكثر تبدو إيران، عبر نجاحها في بلوغ المراحل الأخيرة من تفاهم نووي تعثر طويلاً بسبب رهان الغرب على ليّ ذراعها وثنيها عن ثوابتها، وكانت الحرب على سورية أشرس وآخر المحاولات الدموية المصيرية، على المنطقة ككلّ، وها هي إيران تفرض معاملتها بقوة انتصارها لسورية وصمود سورية، فتنهي الحلقات الأصعب من صناعة نصرها، ويتعامل معها العالم كله كدولة عظمى، ليس في المنطقة فقط، بل كقوة صاعدة على المستوى الدولي تحت عنوان الفاعلية المرتقبة لها ولحلفائها في الحرب على الإرهاب.
– كانت لوقوف روسيا وإيران إلى جانب سورية آثار كبيرة في تعزيز صمودها وتوفير مقوّمات هذا الصمود، فالسلاح الروسي بأحدث ما في الترسانة السورية وضع بيد الجيش السوري، ويوم جاءت الأساطيل الأميركية إلى البحر المتوسط استنفرت روسيا غرف عملياتها ووضعت قواتها في أعلى درجات التأهب، وكانت رسالة إسقاط الصاروخين الأميركيين الاختباريين كافية لتوضيح الصورة والموقف، ومن قبل كان الفيتو المكرّر أداة ديبلوماسية قانونية لحماية سورية. وبمثل ما كان إشعال حرب أوكرانيا أداة ضغط لثني روسيا عن طموحاتها للتصرف على الساحة الدولية كقوة عظمى ندية لأميركا، كان أيضاً نتاجاً لموقفها الثابت مع سورية ومحاولة لمعاقبتها على هذا الوقوف، فثبتت روسيا ولا هي تراجعت عن مصالحها الوطنية ولا هي تخلت عن دعمها لسورية أو عرضته للمساومة، وكذلك كانت إيران بالمال والسلاح والرجال تخوض حرب سورية كشريك لا يسأل عن الأثمان والتضحيات، وتعلم أنّ نصر سورية نصر لها والهزيمة هزيمة للمحور كله، فمثلما تدرك روسيا مكانة سورية في الجغرافيا السياسية للعالم، تدرك إيران أكثر مكانتها في المنطقة وفي الصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، ومثلما لم تبخل روسيا، كانت إيران أكثر سخاء فلم تقم حساباً لمال وسلاح ورجال، ولما جاء وقت التفاوض على ملفها النووي وفقاً لمبادئها وثوابتها، كانت تعلم أن ما يحدث يتم بقوة صمود سورية، لكنها أيضاً هنا حمت ظهر سورية وكانت حليفاً وفياً لم يتخلّ عن حليفه ولم يعرّض مصالحه للخطر، بل وضع خطوطاً حمراء في أي تفاوض عنوانه جلب الآخرين لموقفه من سورية. وها هي أميركا تسلم بأن الرئيس بشار الأسد الذي كان إسقاطه الهدف الأميركي الرئيسي من الحرب، يصير بقاؤه من المسلمات، بقوة ثباته وموقعه التمثيلي لدى شعبه وتماسك جيشه وراءه، لكن أيضاً بقوة رفض حليفيه الروسي والإيراني لكل ما عرض عليهما من مساومات.
– ليس بعيداً جداً عن روسيا وإيران، يرتسم وضع مشابه، ففي العراق بعيداً عن الوقوف مع سورية تدور رحى المواجهة مع «داعش»، بقدر ما هي حرب الشراكة الطبيعية، بين العراق وسورية، بوجه الإرهاب. لكن بقوة تقدم محور المقاومة المؤسس على صمود سورية في الحرب الأعنف والأشرس التي لو نجح أصحابها في زعزعة سورية لتغير كل شيء، يبدو العراق على رغم تعرّج الطريق نحو نصره على «داعش» يتقدم، فما يجري في الأنبار من تهديدات لا يعادل ما جرى في تكريت من انتصارات، وفي اليمن تمكن الثوار الحوثيون من الصمود وكسر العنجهية السعودية، وإفشال حربها الإجرامية بثباتهم وتضحياتهم وصمودهم، ولكن على خلفية أن السعودية تمثل حلفاً يخسر ويهزم في سورية وفي الملف النووي الإيراني، والحوثيون يمثلون حلفاً يربح في كليهما، وليس موضع نقاش ماذا كان حال اليمن لو كتب للسعودية وحلف الحرب على سورية تحقيق الانتصار عليها، وثالث الحلفاء وأهمهم حزب الله، الذي كان السباق في كشف طبيعة الحرب على سورية، وبذل الدماء سخية بلا حساب، ووضع رصيده المعنوي ومكانة سيد المقاومة ومصداقيته على المحك بلا تردد، لبلوغ النصر في حرب وصفها بحرب مصير، ومستقبل ووجود المقاومة، وكانت إسهامات حزب الله أكثر من كل الآخرين، لأنها بالدماء في صناعة الصمود وشريكة في بلوغ مرحلة زوال المخاطر الرئيسية على مستقبل الحرب فيها وعليها، لكن أيضاً بقوة الحرب على سورية والصمود والثبات فيها، ومعها كان بلوغ حزب الله مرتبة الإقليمية وهي استحقاق جدارة ناله بتضحياته وموقع شرف صنعه رجاله وقائده، وبقوة هذه الحرب كانت فرصة صناعة معادلة ردع جديدة مع «إسرائيل»، من خلال العملية الاستثنائية النوعية في مزارع شبعا، بقوة الشراكة في سورية ومعها.
– ترتسم على الطاولة الإيرانية الروسية في وقت واحد، مع اقتراب التسويات الإقليمية الساخنة التي تكتب صفحاتها بالدماء، ثنائية قوامها من جهة سوء وحقد الأداء السعودي مع كليهما، حرب أسعار النفط والعبث الأمني بحق روسيا، وعنتريات وإساءات بحق إيران، وفي المقابل الحاجة لشريك إقليمي من حلفاء واشنطن، ترسو معه التسويات والتفاهمات كشريك في النظام الإقليمي الجديد، فتتقدم تركيا كبديل للدور السعودي مشروعاً يحقق المطلوب، فتركيا ليست طرفاً في اليمن، وتركيا يمكن أن تكون عنصر تسهيل لحلول موضعية في قضايا لبنانية مثل العسكريين المخطوفين، وتركيا في العراق سند يمكن تحييده من الحرب مع «داعش» وهي الملاذ وخط الإمداد، وتغيير موقعها في هذه الحرب، يغير روزنامتها، ونتائجها، وتركيا جار مباشر ومنفذ بحري تجاري لكل من روسيا وإيران، ليبدو أن الخيار قد وقع على تركيا في ظل قبول مصر وارتضائها الوقوف خلف السعودية، وتخليها عن مكانتها الإقليمية الطبيعية، وتصير المعادلة مع مواصلة السعودية للعربدة والعنجهية، النفاق والمكر التركيين، فتح القنوات والإغراءات لتركيا لتغيير موقعها نحو ضفة التسويات، وتدفيع السعودية ثمن الحروب، ولو كانت التسويات معها قدراً في النهاية، لكنها ستكون حيث لا مفر من ذلك وبأقل الأثمان والأدوار.
– سورية وحدها تبدو خاسراً من سياسة الإغراءات الأحادية لتركيا، لأن ليس لدى تركيا مشروع إقليمي إلا في سورية، ولذلك فقيادة رجب أردوغان، لن تصرف هذا الدلال الروسي الإيراني لها إلا في محاولات قضم لمواقع وأدوار في سورية، كما يحدث منذ شهرين في جبهة الشمال السوري، أملاً بحجز نصيب من الجغرافيا السياسية والواقعية السوريتين، يضعها على طاولة التفاوض حول مصير سورية، وليس تشجيع الحلول فيها، ويعلم قادة روسيا وإيران ماذا يعني نجاح تركيا في هذه الخطة، وماذا لو صارت الجغرافيا المستقبلية لسورية، رقعة شطرنج تملك فيها تركيا نفوذاً، حتى لو تكرست مرجعية الدولة السورية بقيادة الرئيس بشار الأسد، لأن هذا يعني الدخول في لعبة السياسة والأمن ضمن جوار جغرافي متحرك ورخو ومعادلات ديمغرافية سكانية ودينية وعرقية وقومية يملك الأتراك العائدون عندها من موقع مرتاح ودون صورة المهزوم للعبث بالداخل السوري، في مكونات، يمكن اللعب على حبال غرائزها وفقرها وخراب أنتجته الحرب، ويمكن للسعودية بمالها أن تصطف وراءهم لتنتقم، وتصير الانتخابات السورية على الطريقة اللبنانية مال وإعلام وطوائف، والمشهد السوري على طريقة المشهد اللبناني في عهد الرئيس اللبناني إميل لحود، في حالة دفاع مستمرة، كأن الحرب لم تنته بل توشك أن تبدأ من جديد، ولا حاجة للتكرار أمام إيران وروسيا، أننا هنا نتكلم عن سورية بكل ما يعلمان أنها تمثل وتعني.
– ليس مطلوباً قطيعة مع تركيا من إيران وروسيا، ولا المطلوب استبدالها بالسعودية شريكاً في الحلول، بل المطلوب القناعة أن أوان الحلول لم يحن بعد وأن الحرب لا تزال في ذروتها، وأن كل شركاء الحرب على سورية يجب أن يدفعوا أثماناً حتى يتيقنوا أن التسويات طريق أشد أماناً فيختارونه، ويستوي في هذا التركي والسعودي، مع فارق المكر والخداع والنفاق التركيين، وعندما ينضج أحد أطراف الحرب للتسوية، يكون التموضع خارجها شرطاً مسبقاً لا وعداً مستقبلياً، علماً أن الأتراك ليسوا حتى بوارد الوعود المستقبلية بصدد سورية، فهم يجاهرون بما يريدون، ويراهنون على استغلال التقرب الروسي الإيراني، لتحقيق المزيد من المكاسب.
– الحرب في سورية وكانت ولا تزال هي الميزان في رسم خرائط المنطقة، وهوية النظام الإقليمي الجديد والنظام العالمي الجديد، ولا يزال حلفاء هذه الحرب حلفاء، فكلما حقق أحدهم مكسباً، ستقوى به الآخرون، وعلى رأسهم الأميركيون، لذلك يبدو الاستعداد لجولة عنف حاسمة في سورية لقطع اليد التركية، مدخلاً إلزامياً لفتح باب التسويات الجدية مع نهاية حزيران، هما شهران حاسمان إذاً.
(البناء)