حماية «إسرائيل» و«إعادة توجيه القاعدة»
غالب قنديل
منذ عام 2000 عندما دُمّرت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر بفضل المقاومة اللبنانية التي تصدّرها حزب الله بدعم مباشر وصريح من المحور السوري الإيراني في المنطقة، برزت مبادرات سعودية واسعة النطاق إعلامياً وسياسياً حملت عناوين التسوية مع «إسرائيل» تحت شعار مبادرة السلام التي قامت على قاعدة الاعتراف والتطبيع، بينما عملت المملكة في الوقت ذاته تحت شعار التصدي لتوسع النفوذ الإيراني الموصوف بالشيعي والفارسي، وقد ركزت المملكة جهودها في لبنان لدعم الاتجاهات المناوئة للمقاومة والداعية لنزع سلاحها.
أولاً: شكلت تجربة لبنان بفرض انسحاب الاحتلال الصهيوني من دون قيد أو شرط من معظم الأراضي اللبنانية المحتلة سابقة عربية تاريخية، وكان المنطق العقلاني لأيّ مقاربة عربية في هذا الموضوع يفترض الاستفادة من دروس التجربة التي أتاحت انتقال عدوى المقاومة وبدعم سوري ـ إيراني فرض انكفاء آخر لجيش الاحتلال عن قطاع غزة.
الترجمة العملية الافتراضية قومياً لدروس هذين الإنجازين هي توسيع الحلف السوري ـ الإيراني الحاضن لحركات المقاومة من خلال الشراكة مع الدولتين الراعيتين وضمّ الجهود السعودية والمصرية وسواها من القدرات العربية في دعم واحتضان المقاومة الفلسطينية، بعدما أثبت الخيار جداوه في تعديل توازن القوى الذي يحكم الصراع العربي ـ الصهيوني منذ اتفاق «كامب ديفيد» واتفاقات «اوسلو» و«وادي عربة» و«17 أيار» التي دعمتها المملكة السعودية ودعمت الجهات العربية التي وقّعت عليها، ولم يكن المطلوب إعلان حرب عربية شاملة لتحرير فلسطين، بل مجرد الاحتضان السياسي والإعلامي والدعم المالي للشعب الفلسطيني ولقوى المقاومة الفلسطينية من خلال صيغة عربية ـ إيرانية وترجمة ذلك بكسر الحصار على قطاع غزة والتمرد على المشيئة الأميركية التي قضت بخنق القطاع والضفة الغربية المحتلة لتكريس الغلبة الصهيونية، ومعلوم أنّ المملكة امتثلت لجميع التدابير والقيود الأميركية التي تضمّنها الحصار على غزة والشعب الفلسطيني، بينما تحوّل التمرّد السوري والإيراني على تلك القيود إلى عنوان لتوتر تصادمي بين واشنطن وحلفائها وكل من دمشق وطهران.
ثانياً: كان الموقف السعودي من حرب تموز 2006 ومن الحروب الأميركية الصهيونية التي استهدفت قطاع غزة مجسداً بالمشاركة في مجموعة شرم الشيخ بقيادة الولايات المتحدة الأميركية التي وظفت جميع تحالفاتها وعلاقاتها لتمكين «إسرائيل» من كسب تلك الحروب، فماذا كان سيحصل لو اتخذت المملكة السعودية خياراً آخر وتمردت على المشيئة الأميركية ونسقت مع سورية وإيران وقوى المقاومة بدلاً من محاربة تلك الجبهة والسعي إلى شقها بشتى الوسائل والقدرات وعوضاً عن شيطنة كل ما تقوم به بتحريض سياسي وإعلامي منقطع النظير؟
لم تُدر إيران أو سورية ولا المقاومة الظهر للثقل السعودي في المنطقة، وهي جميعاً حافظت على التواصل بالمسؤولين السعوديين والتزمت منطق المناشدة لمراجعة السياسة السعودية، وهي عرضت التعاون والعمل المشترك لنصرة الشعب الفلسطيني ومقاوميه بلا كلل في جميع المحطات و بلا جدوى حتى وقعت الحرب الاستعمارية على سورية وغايتها تدمير محور المقاومة ممثلاً بالدولة الوطنية السورية وبالشعب السوري وقواته المسلحة وبرمزه القومي الرئيس بشار الأسد الذي فتح الأبواب للتعاون مع المملكة وثابر على محاولات التقريب بين الرياض وطهران على رغم كل ما جرى في لبنان ضد سورية بدعم سعودي منذ عام 2000 وصولاً إلى جريمة اغتيال الرئيس السابق رفيق الحريري وما بني عليها من استهداف لسورية ومن ثم لحزب الله.
ثالثاً: بعد الفشل «الإسرائيلي» المتكرر انطلقت إعادة توجيه القاعدة واستعمالها لتدمير سورية والعراق، وكانت قراراً سعودياً ـ أميركيا معلناً، وهي ليست سراً يُكشف أو خبراً يختلق للافتراء على المملكة السعودية فقد قام رئيس الاستخبارات الأميركية المركزية السابق الجنرال ديفيد بيترايوس بعد موافقة الرئيس باراك أوباما على تقدير استراتيجي أعده بيترايوس في شباط 2012 بزيارة رسيمة معلنة للمملكة، طلب فيها إعادة تسليم بندر بن سلطان رئاسة المخابرات السعودية لحشد فصائل الإرهاب القاعدية إلى سوريا وأشرف بيترايوس بنفسه على قيادة غرفة العمليات المركزية من تركيا، بينما انطلقت حملة عالمية لتحشيد الإرهابيين من ثمانين دولة وفقاً لتقارير الأمم المتحدة ونقلت طائرات الشحن السعودية إلى عمان واسطنبول آلاف أطنان الأسلحة من كرواتيا وغيرها لتنقل من ثم بواسطة شبكات بندر وأردوغان إلى الداخل السوري، ولا تزل سوريا تدفع كلفة التورط السعودي في الحرب التي يشنها «داعش» و«جبهة النصرة» وفصائل تكفيرية عديدة.
من يستطيع أن ينكر الاحتفالات السعودية المعلنة بانتشار «داعش» في الموصل والأنبار؟ وقد أطلق الإعلام السعودي على تلك الواقعة تسمية الثورة الشعبية بدلاً من ضم الجهود مع حكومة بغداد والشعب العراقي لصدّ خطر الإرهاب التكفيري الذي تغذى من المساعدات السعودية المالية الواردة في تقارير مجلس الأمن الدولي والإدارة الأميركية المنشورة إعلامياً وهو خطر يطرق أبواب المملكة ويهددها من داخلها.
رابعاً: أما عن المعاهد الوهابية المكرسة لنشر عقائد التكفير فقصتها قديمة وهي انطلقت من باكستان وأفغانستان حيث تستمر منتجاتها في تهديد العالم منذ الشراكة الملعونة بين بندر وزبيغنيو بريجنسكي في خطة تدمير الاتحاد السوفياتي، وقد ساهمت الآلة السعودية الأمنية والسياسية يومها في تجنيد آلاف الشباب العرب تحت عنوان الجهاد بعد تجربة أولى مشتركة مع الأمير حسن ولي عهد الأردن السابق في دعم إرهابيي الإخوان المسلمين ضد الدولة السورية خلال ثمانينات القرن الماضي، بينما كانت سورية تكرس جهودها لتكوين جبهة الصمود والتصدي العربية بعد كامب ديفيد وتوثق تحالفها مع إيران في دعم قوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية بعد الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 وليس من فراغ أن أركاناً من القاعدة هم سوريو الجنسية ومن الكوادر الإرهابية التي هاجرت إلى أفغانستان بعد الهزيمة في سورية.
في كل ما تقدم يتضح لأي عاقل أن نتيجة السياسات السعودية في الأعوام الخمسة عشر المنقضية هي تغذية التفكك الداخلي وضرب مواقع القوة في البلاد العربية وبالتالي استنزاف خصوم «إسرائيل» ومن غير أن نعطي بالاً للهمس والتصريح المتكررين عن التحالف مع «إسرائيل» ضد سورية وإيران وقوى المقاومة في المنطقة.