هل يمكن أن تؤدي ”المغامرة السعودية“ إلى تقويض منظمة «أوبك»؟ محمد خالد
يبدو من المؤكد أن الصراع الدائر حاليا بين السعودية وأطراف نفطية أخري حول زيادة الانتاج ومن ثم خفض أسعار النفط، والذي تقول المملكة أنها على استعداد لتحمل تبعاته حتى وإن بلغت أسعار النفط حد الـ20 دولارا للبرميل، سيقوّض حكم الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين»، كما أنه يتحدّى صناعة الصخر الزيتي الأمريكية، ولكنه أيضًا سيقوّض مكانة «أوبك» نفسها .
وهو ما يعني أن هذا الانخفاض الحادّ (المؤقت) في أسعار النفط قد يسهم في تقويض خصوم السعودية السياسيين والاقتصاديين، وسيعزّز من مصالحها الأمنية في المدى البعيد، ولكن لن يضر هذا الانخفاض الحكم السعودي كثيرا على المدى القريب، وقد ينجح بالمقابل في إبعاد شركات الصخر الزيتي الأمريكية من السوق، مما قد يسهم في تعافي الأسعار.
هكذا لخصت مجلة «ذي ماركر«the Marker الاقتصادية الاسرائيلية الوضع الحالي المتعلق بالرهان السعودي علي تخفيض أسعار النفط لضرب خصومها والسيطرة على أسواق النفط في تقرير أعده «أشير شختر» تحت عنوان «الرهان السعودي» في 8 أبريل/نيسان الجاري.
وبحسب المجلة «فقد قوض هبوط أسعار النفط، في الأشهر الأخيرة، استقرار النظام في روسيا وإيران، ولكنه يهدف بشكل أساسيّ إلى إجهاض فرحة الأمريكيين بالنفط الصخري المنافسة لنفط الخليج، والسعوديون مستعدّون حتى للتضحية بمنظمة أوبك التي تسيطر على إمدادات النفط منذ أكثر من 50 عاما».
فبعد 54 عاما احتكرت خلالها المنظمة القدرة على تنظيم أسعار النفط في العالم من خلال السيطرة على معدلات إنتاجه أصبح السؤال: هل منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك تتداعى أمام أعيننا أكثر من أي وقت مضى؟، بسبب انهيار أسعار النفط في الأشهر الأخيرة، ولكنه يبدو سؤالًا أخف حدة ممّا حدث في صيف 2011، حيث قيل حينئذ: «هل ماتت أوبك؟» بحسب ما جاء في عنوان مقال في مجلة «التايم«.
ففي عام 2011 كان سعر برميل النفط يتراوح حول 100 دولار، وكانت الشركات الـ 12 في المنظمة، التي تسيطر على 30% من الإنتاج العالمي من بين المستفيدين الرئيسيين من ذلك، ولكن الصراعات بين الدول الأعضاء بلغت ذروتها عندما طلبت السعودية، العضو الأكبر في المنظمة، زيادة إنتاج النفط؛ ما أدى إلى انخفاض سعره، ولاقى معارضة قوية من قبل نصف الشركات في المنظمة، منها فنزويلا، إيران وليبيا، اللاتي يعتمد اقتصادها كليا تقريبًا على سعر النفط المرتفع.
ولكن بعد ثلاث سنوات ونصف من ذلك، بدا كل شيء مختلفا في سوق النفط، وهبط سعر البرميل الي 60 دولارا، فاقدًا نحو 50%. من قيمته.
وجاء هذا في وقت توشك فيه الولايات المتحدة على تجاوز السعودية وأن تصبح منتج النفط الأكبر في العالم بفضل الثورة في إنتاج النفط من الصخر الزيتي وتكنولوجيا التكسير الهيدروليكي (Fracking)، وتكاد تقترب من التحرّر نهائيّا من اعتمادها على النفط المستورد.
أما الصين والهند، اللتان كانتا في 2011 تمثّلان محرّكا النمو في الاقتصاد العالمي، فتشهدان الآن تباطؤا في النمو، ولكن بالمقابل، يبدو أن قوة أوبك، التي سيطرت على مدى عشرات السنين على الاقتصاد العالمي، وقامت بثني أيدي القوى العظمى، في طريقها إلى الزوال، بسبب المصالح المتضاربة لشركاتها وثورة الصخر الزيتي الأمريكية.
أوبك تخسر 375 مليار دولار
عندما ظهرت التشقّقات في داخل منظمة أوبك، ألمح وزير النفط الإيراني، «بيجان زانجانه»، إلى ما أسماه «تواطؤ سياسي» في معرض تفسيره لأسباب انهيار أسعار النفط لشبكة سي إن إن، ويبدو أن هذا “التواطؤ” الذي تحدث عنه وزير النفط الإيراني يقصد به صراع السعودية (بدعم من دول الخليج) مع منافساتها الرئيسية: روسيا، التي تنهار اقتصاديا في أعقاب تراجع أسعار النفط، وأيضا مع منتجي النفط الصخري داخل الولايات المتحدة.
فهذا الصراع، والذي من المفترض، بحسب الخبير الاقتصادي والصحفي البريطاني «أنتولي كلاتشكي»، أن يخفّض من أسعار النفط حتى 20 دولارا للبرميل، يقوّض بالفعل حكم الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين»، ومن المتوقع أنّ يتحدّى صناعة الصخر الزيتي الأمريكية، ولكنه أيضًا يقوّض مكانة أوبك نفسها.
فوفقا لتوقعات وزارة الطاقة الأمريكية، ستخسر دول أوبك إيرادات بقيمة 375 مليار دولار إذا بقيت أسعار النفط في مستوى أقل من 70 دولارا للبرميل.
السعودية لن تتضرر
ويبدو أن سبب دفع السعوديين الذين يمتلكون وحدهم 16% من احتياطيات النفط في العالم، الأسعار إلى الانخفاض الحادّ هو أنّهم يستطيعون احتواء مثل هذا الانخفاض مع بقائهم واقفين على أقدامهم، حيث تتمتّع السعودية باحتياطيات نقدية تبلغ أكثر من 750 مليار دولار تحميها من آثار الهبوط الحادّ في أسعار النفط، ولديها مال يكفيها لإعانة سكانها بواسطة المنح والإعانات، كما فعل الملك «سلمان»، الذي قرّر توزيع 32 مليار دولار على الشعب السعودي في فبراير/شباط الماضي.
بالإضافة إلى ذلك، فقد خفّضت تكنولوجيا الحفر الجديدة في السنوات الماضية بشكل ملحوظ من تكاليف الحفر للنفط السعودي، وبذلك فإنّ صناعة النفط الخاصة بها رابحة حتى عندما تهبط الأسعار، بخلاف عملية إنتاج النفط من الصخر الزيتي، التي تصبح أقل معقولية كلّما انخفضت الأسعار، وهو ما يعني إنّ الانخفاض الحادّ، ولكن المؤقت، في أسعار النفط سيقوّض خصوم السعودية السياسيين والاقتصاديين، وستعزّز من مصالحها الأمنية في المدى البعيد،وفي ذات الوقت فإنه لن الحكم السعودي كثيرا.
وبإمكان دول الخليج الغنية أيضًا مواجهة الانخفاض في أسعار النفط، ولكن فنزويلا، التي يشكّل النفط 96% من الصادرات، وإيران ستجدان صعوبة في القيام بذلك.
الاستنتاج الذي لا مفرّ منه من ذلك هو أنّ أوبك لم تعد موجودة في الواقع كمنظّمة موحّدة ذات مصالح متكاملة، حيث يفضّل السعوديون برفضهم لتخفيض الإنتاج بشكل واضح مصالحهم على مصالح بقية الدول الأعضاء في المنظمة، ما يعني فعليا موت أوبك.
وقد أشار إلى ذلك خبير السلع الاقتصادي الرئيسي في «بنك أمريكا» بقوله: «منظمة أوبك النفطية لم تعد موجودة بأية طريقة ذات معنى»، وأوبك «تفكّكت فعليّا»، وأضاف إن «العواقب كانت دائمة وبعيدة المدى».
كذلك سارع محلّلون وخبراء اقتصاد آخرون للإعلان أيضًا عن نهاية عصر أوبك وبداية عصر جديد، يُحدّد السوق فيه الأسعار، وقال «جاري روس»، المدير العامّ لشركة PIRA Energy: «إنه عالم جديد لا تستطيع أوبك ببساطة أن تدير السوق أكثر، الآن هو دور السوق في إملاء الأسعار، وهي ستنخفض بالتأكيد»، وقال الخبير الاقتصادي «دينيس جرتمان»: «أعتقد أنّنا شهدنا نهاية أوبك ككيان قابل للحياة..إنّ أوبك منكسرة».
أجندة أوبك السياسية
وبينما تشهد أوبك «موتا مُذلاّ» برعاية السعوديين، من الصعب ألا نتذكر ذروة أيام المنظمة، عندما كان «أحمد زكي يماني»، (وزير النفط السعودي منذ الستينيات حتى نهاية الثمانينيات، والذي كان الشخصية المهيمنة على أوبك على مدى أكثر من 20 عاما)، يتباهى بأنّه «يمسك بالعالم على خيط».
وتأسست أوبك عام 1960 من قبل السعودية، إيران، العراق، الكويت وفنزويلا، وبعد ذلك انضمّ إليها سبعة أعضاء آخرين، من بينهم قطر والإمارات العربية المتحدة.
وكانت نقطة التحوّل التي أثبتت قوة المنظمة وفاعلياتها هي حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973والتي أعلن أعضاء المنظمة خلالها مقاطعة نفطية ضدّ الولايات المتحدة وبعض حلفائها في الغرب، من بينهم كندا، هولندا وبريطانيا؛ بسبب دعمهم لإسرائيل.
وسيطرت أوبك، التي كانت حينذاك في ذروة قوّتها، على نحو 55% من إنتاج النفط العالمي، ولكن بعد حرب أكتوبر تحولت من هيئة تحرص على المصالح الاقتصادية لمصدّري النفط إلى منظّمة ذات أجندة سياسية.
وكانت آثار المقاطعة عميقة ومؤلمة حيث ارتفعت أسعار النفط أربعة أضعاف، وغرقت الولايات المتحدة في ركود، ودخل العالم فترة من التضخّم والركود الاقتصادي، وتصارع أعضاء حلف شمال الأطلسي فيما بينهم وتغيّر الاقتصاد العالمي، حتي آلت فترة الازدهار التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، في الواقع، إلى نهايتها.
وكنتيجة لارتفاع أسعار النفط تمتّعت دول أوبك بأرباح ضخمة، ومنحتها القدرة على تنظيم أسعار الطاقة في العالم قوة جيوسياسية غير مسبوقة، ولكن في لحظات الذروة هذه كانت تكمن أيضًا بذور الدمار التي قادت المنظّمة أخيرا إلى نهايتها، حيث أدركت الدول الغربية بأن عليها التحرّر من الاعتماد على مصدّري النفط ومنظّماته، وكانت النتيجة موجة من الاستثمارات في الطاقة البديلة، والبحث عن الموارد المحلّية.
وقد أدت هذه العملية، التي بدأت في عهد إدارة الرئيس الأمريكي «ريتشارد نيكسون» في بداية السبعينيات، إلى تراجع تدريجي في قوة أوبك وقدرتها على التأثير على أسعار النفط، ولكنه كان بطيئا إلى درجة أنّه لم تضرّر قدرة دول أوبك في إملاء أسعار النفط العالمية بشكل كبير حتى ثورة الصخر الزيتي، ومنذ عام 2005، انخفضت واردات النفط الأمريكي بنحو 50%.
وقد تمّ نعي أوبك فعليّا مرّات عديدة في الماضي، منها في الثمانينيات، عندما انهارت أسعار النفط من 35 إلى نحو 10 دولارات للبرميل في أعقاب تطوير صناعة النفط في بحر الشمال، وتراجعت إيرادات النفط السعودية بشكل ملحوظ، وحاول السعوديون حينذاك أيضًا مكافحة المنافسة الجديدة في بحر الشمال بواسطة رفع أسعار الإنتاج، وقد أدّت العملية آنذاك أيضًا إلى انخفاض حادّ في الأسعار، وفي نهاية التسعينيات تراجع سعر برميل النفط إلى 9 دولارات وتم الحديث مجدّدا عن نهاية أوبك، ولكن المنظّمة نجت من جديد.
وحتي نشوة الصخر الزيتي الأمريكية الحالية أيضًا لن تستمرّ إلى الأبد، وهناك محلّلون يتوقّعون بأنها ستنتهي قبل نهاية العقد الحالي، وسوف يستمرّ الطلب على النفط من قبل الأسواق الناشئة بالتزايد، حيث تملك أوبك 80% من احتياطيات النفط في العالم.
وحتى عام 2040، وفقا لوكالة الطاقة الدولية، ستنمو حصّة دول أوبك في سوق النفط العالمي بـ 49% مقابل 42% اليوم، وذلك بعد أنّ تنضب بشكل نهائي موارد النفط لدى بعض الدول التي ليست أعضاء في المنظمة.
مصير أوبك
لا تضمن هذه التوجهات أن تستمرّ أوبك في الوجود كمنظّمة قادرة على حماية مصالح أعضائها المشتركة، فهل في هذه المرة، بخلاف المرات السابقة، سينجح السوق في هزيمة أوبك نهائيا؟ وهل ستزول المنظّمة، كما توقع بعض المحلّلين في الشهر الماضي، من الوجود في العقد القادم؟
لعلّه كذلك، ولكن ربّما يستحسن توخّي الحذر قبل أن نخسر أوبك، فرغم التوترات الحالية بين دول المنظمة، فقد مرّت بأكثر من ذلك بكثير وهي معًا، واستمرت في التعاون معًا في إطار أوبك رغم الصراعات، بل وحتى الحروب الدموية بين أعضاء المنظمة، مثل الحرب الإيرانية -العراقية، وحرب الخليج الأولى، وعندما غزا العراق الكويت، في نهاية المطاف، كان السعوديون يدركون بأنّ دول أوبك أقوى وهي مع بعضها البعض من أن تكون منفردة.
المصدر | الخليج الجديد