الإيرانيون هزموا العالم… بقنبلة لم يصنعوها!: خالد العبّود
… وأخيراً تمّ الإعلان عن «الاتفاق النووي الإيراني»، من خلال جملة بنود تتعلق بحيثيات الملف ذاته، وأغلبها تقنية تلحق بها إجراءات وخطوات تحاكي عناوين اقتصادية ومالية كانت قد وقعت على إيران خلال سنوات عدة نتيجة هذا الملف وخريطة صيرورته.
نعتقد أنّ هذا الاتفاق جاء بعد حسابات دقيقة ومعارك هامة وكبيرة جداً، ونعتقد أنّه لم يكن معزولاً عن مناخ عام ساهم في رسم خريطته، أو حتى في التعبير عنه بدقة أكبر، حيث كان مطروحاً أكثر من سيناريو مواجهة، أو سيناريو تخلص من هذا الملف، والسيناريو هنا كان خاصاً بالأطراف الأخرى، الأطراف التي حاولت منع إيران من امتلاك أدنى تعبير نووي يمكنه أن يمنحها إمكانية أن تكون على عتبة «النادي الدولي النووي».
الإيرانيون أعدوا العدّة جيّداً وأداروا معركتهم بكفاءة عالية جداً، حيث وزعوا قواهم في شكل صحيح ومتزن، بين عناوين متعدّدة وربما متنوعة في أحيان كثيرة، فقد ظلّوا على مواقفهم الثابتة يحرّكون أوراقهم بمهارة وصبر وأناة، كما أنّهم أماتوا عنصر الزمن في مواجهة أعدائهم وخصومهم، وهم الذين ظلّوا يمسكون بملفّهم بحرارة لم تتبدل ولم يطرأ عليها انفعال أو صبيانية أو أدنى تفريط في غير مكانه…
لقد بدا المشهد الإيراني لإدارة معركة تخليص ملفّهم النووي غاية في المثالية، حيث كانت تجري العادة خصوصاً خلال العقود الماضية على أنّ المعركة في مثل هذه القضايا والعناوين لا يمكن أن تكون نتائجها إلا في مصلحة الولايات المتحدة و«مجتمعها النووي»، بمعنى إما أن تكون هذه الدول التي تتصدى لهذا العنوان تابعة وملحقة بإرادة الولايات المتحدة وبالتالي تكون تحت إشرافها المطلق والمباشر، أو أن يتم إلحاق البرنامج كليّاً بها كما حصل في ليبيا على سبيل المثال.
لم تكن نتائج المواجهة في الملف النووي الإيراني كذلك، فقد كان هناك مشهد آخر جديد تماماً، لعلنا لم نتعود عليه من قبل الآخرين، لكنها النتائج التي لا تبتعد ولا تنفصل عمّا عودتنا عليه مكونات «محور المقاومة» في معاركها التي أدارتها مع الآخرين، إنها ذات النتائج التي تحاكي انتصار تموز 2006 في لبنان، وانتصار المقاومة في غزّة في أكثر من مرّة، وتحاكي انتصار ثبات وصمود سورية في وجه العدوان عليها.
الإيرانيون فهموا أنّ الولايات المتحدة لا يمكن لها أن تتراجع عن مقدماتها وأهدافها وتطلعاتها إلا بإلحاق الهزيمة بها، والهزيمة هنا قد تكون بأسباب متنوعة ومتعدّدة، فوضعوا لها خريطة واستراتيجية مواجهة وإدارة معركة، فهم من أجل التاريخ ومن أجل عنوان أخلاقي هام وسام وعال، أفتى سماحة السيد علي خامنئي بحرمة «القنبلة النووية»، وهي حرمة واضحة جليّة لا يفهمها إلا من هو معني بها، لذلك لم تفهمها الولايات المتحدة ولم تتعامل معها على حقيقتها، وبقيت تضعها في سياق سياسي صرف، أو في سياق من سياقات المواجهة التي لا تبتعد عن عناوين أمنية والتفافية وتسويقية لإلهاء العدو والخصم، في حين أنّ الأمر لم يكن كذلك في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ركّزت الإدارة الأميركية على «السلاح النووي» وهي تدرك تماماً أنّ هذه اللغة لا تناسب العقل الإيراني، فالإيرانيون ليست حالهم حال الدول والحكومات الأخرى التي أدارت معها الإدارة الأميركية مثل هذه المعارك وعلى ذات العناوين، حيث أنّ المتابع يرى أنّ ذات العقلية التي أدارت المعركة على «الملف النووي العراقي»، أو غيره، هي ذات العقلية التي أدارت المعركة مع الإيرانيين على «ملفهم النووي»، علماً أن الإيرانيين كانوا يتصرفون بعقلية مختلفة عن عقليات باقي الحكومات التي أدارت معارك ملفاتها النووية، فلم تنتبه الإدارة الأميركية أنّها أمام عقلية مختلفة تماماً، وأنّها أمام طرف له أهداف مختلفة عن تلك الأهداف التي كانت تسعى إليها بعض الحكومات الأخرى من وراء دخولها على هذا العنوان النووي الهام.
هذه مفارقة عجيبة وهامة جداً، والأميركي لم ينتبه لها، غير أنّ الطرف الإيراني أدرك أنّ الأميركي لم يصدّقه وهو يتعامل معه بذات العقلية السابقة التي أدار فيها مثل هذه المعارك مع الآخرين، لهذا سعى الطرف الإيراني إلى إيهام الأميركي بأنّه لا يتعاطى معه بطريقة مختلفة، وكان التركيز على عنصر القوة وإظهارها من أوّل أولويات الإيراني، في الآن الذي كان الأميركي يربط كلّ إشهار للقوة وكأنّه مسنود على صيغة نووية أو معنى نووي، الأمر الذي جعل الأميركي مشدوداً إلى هذا العنوان في شكل تقليدي، وهو ما أسس لرأي جمعي أميركي رئيسياته أن هناك سلاحاً نووياً تسعى له إيران، وبالتالي فإن أي إعلان تراجع أمام مقدمات وأهداف وضعتها الإدارة الأميركية على مستوى المنطقة لا بد وأن يمرّ عبر «تراجع نووي إيراني».
لقد أضحت هذه الفكرة أساسية ورئيسية بالنسبة للإدارة الأميركية، وأصبح مطلوباً أيضاً أن يتمّ تضخيم هذا الملف، والتركيز عليه، من قبل الإدارة الأميركية، من أجل حاجتها الماسة له، باعتبار أنّه سوف يكون مدخلها الجديد لإعادة تموضعها على مستوى المنطقة، نتيجة جملة إخفاقاتها فيها، والتي لم تكن متعلقة بالملف النووي الإيراني أصلاً، وإنما كان لها علاقة بعناوين أخفقت فيها عسكرياً وسياسياً وأمنيّاً.
عندما يقول «أوباما» واصفاً هذا الاتفاق بأنّه «تاريخيّ» فهو يحتاج إلى تسويقه كي يخفي وراءه جملة إخفاقات أميركية هامة، وبالتالي فإنّ حاجة «أوباما» لم تكن أكثر من حاجة سياسية صرفة، يمكن لها أن تعيد التموضع له، كونه يعاني، أو تعاني إدارته، على أكثر من مستوى وأكثر من صعيد.
أدرك الإيراني ذلك جيّداً، فلم يترك موقفاً أو قراراً أو تصرفاً أو امتعاضاً أو إدانة من قبل أطراف العدوان عليه إلا وحمّلها على الاتفاق، إيماناً منه أنّ الأميركي بحاجة ماسة له، نعني هذا الاتفاق، فهو لم يتنازل عن موقف اتخذه سابقاً لجهة عناوين سياسية أو أخلاقية، كما أنّه حافظ على مواقفه وخريطة حضوره وتواجده على مستوى المنطقة، خصوصاً تلك العناوين الهامة والكبيرة والتي حصل أكثر من عدوان من أجلها، وعلى مدار سنوات عدة!
يبقى هناك سؤال كبير وملحاح في ظلّ هذا الانتصار، هل سيكتب التاريخ يوماً: «الإيرانيون هزموا العالم بقنبلة لم يصنعوها!».
(البناء)