تفاهم لوزان : أبعاد استراتيجية
غالب قنديل
البنود التي تضمنها تفاهم لوزان بعد سنوات طويلة من التفاوض بين إيران ومجموعة (5+1 ) الدولية تمثل خلاصة توازن القوى الدولي والإقليمي ومفصلا رئيسيا في تبلور انتهاء مرحلة الهيمنة الأحادية الأميركية التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفياتي وفي أعقاب حروب ومغامرات عسكرية كونية فاشلة خاضتها الولايات المتحدة لفرض الخضوع العالمي لتلك الهيمنة وقد تركزت أبرز تلك الحروب المباشرة وبالواسطة في البيئة الاستراتيجية التي تنتمي إليها إيران من أفغانستان إلى العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وحيث أثبتت المفاوضات حزم إيران في رفض ابتزازها بربط التفاوض النووي بأي من الملفات الإقليمية بقصد انتزاع تنازلات تمس بحلفائها وبموقفها المبدئي من قضية فلسطين وشراكتها في محور المقاومة مع سوريا وحزب الله وعبثا يندب نتنياهو الفشل في تحويل الاعتراف بإسرائيل إلى شرط تفاوضي.
اولا البعد الأول الذي عبرت عنه بنود التفاهم هو ظفر إيران بما صممت على انتزاعه منذ البداية وهو الاعتراف بحقها المشروع في امتلاك التكنولوجيا النووية لخدمة ثورتها الصناعية وطريقها المستقل إلى التنمية والتقدم الحضاري وقد تأكد ذلك عمليا في تفاهم لوزان بتراجع الولايات المتحدة عن شروطها السابقة المتصلة بتفكيك منشآت التخصيب وإرغام إيران على شراء حاجاتها من الوقود النووي لمرافقها الحيوية من الخارج أي حرمانها من امتلاك التكنولوجيا الوطنية المنتجة لحاجاتها من الطاقة النووية بدلا من قبول عرض إيران الدائم بالخضوع للوكالة الدولية وبروتوكولاتها في الرقابة على برنامجها النووي وهذا الخضوع الطوعي المقترح من قبل إيران منذ البداية لم يكن مكسبا انتزع منها في لوزان كما تصور الدعاية المضادة للإنجاز الإيراني الذي هو نتيجة لصمود شعبها ولتضحياته ولصلابة قيادتها وتبصرها ولبراعة دبلوماسيتها.
من غير شك وبكل وضوح فإنه مقابل انتزاع حقوق إيران المشروعة بالحصول على التكنولوجيا فقد نص الإعلان على تكييف مقيد لوظائف مرافق التخصيب الإيرانية ولمدة عشر سنوات لجهة معدلات التخصيب وعدد أجهزة الطرد المركزي والوظائف البحثية لتلك المرافق وحيث التزمت المجموعة الدولية بتقديم المساعدة المطلوبة للتطوير البحثي أي لامتلاك التكنولوجيا وثمة علماء وخبراء يؤكدون ان الرقم عشرة لم يكن صدفة فهو المدى الزمني الأقصر لحقوق ملكية براءات اكتشافات تكنولوجية مرتبطة بالطاقة النووية واستعمالاتها تتقاضى عليها الدول الكبرى مبالغ مالية في صفقاتها لبيع التكنولوجيا المتقدمة وأدواتها.
ثانيا حققت إيران انتصارين لا يمكن تجاهلهما إلى جانب التسليم بحقوقها النووية المشروعة فهي من جهة أثبتت بما لايقبل الجدل ما اكدته منذ البداية لجهة قرارها السيادي الوطني بعدم السعي إلى امتلاك سلاح نووي وهو القرار المسند بنظرة عقائدية منهجية والنافذ بفتوى دينية للإمام السيد علي الخامنئي والمفارقة انها باتت بعد لوزان من ضمانات التنفيذ في رأي الرئيس باراك اوباما بعد تجاهل وتشكيك ممتدين ومن جهة ثانية ضمنت إيران لشعبها ولاقتصادها تفكيك الحصار الغربي الاستعماري ومنظومة العقوبات التي كبلت علاقاتها الخارجية طويلا بذريعة المشروع النووي ومن غير ان تقايض ذلك بأي تنازلات عن حقوقها ومبادئها او مصالحها الاستراتيجية.
هذا التحولان يرسخان مكانة إيران كقوة فاعلة في المنطقة وفي العالم ويفتحان امامها فرصا ثمينة للتطور ولمواصلة النمو والتوسع في شراكاتها الاقتصادية والتجارية متحررة من قيود سياسية ومصرفية فرضت على الاقتصاد الإيراني اعباء ثقيلة وعرضت السياسة الإيرانية لابتزاز بعض الجهات التي قدمت منافذ مكلفة من الحصار لم تكن يوما بلا مقابل كما هي حالة الشريك التركي الانتهازي الذي هرول إلى طهران متفقدا ومستكشفا بعد تفاهم لوزان.
ترك الحصار آثارا كثيرة مكلفة ولاجمة للنمو وتحمل الشعب الإيراني بإباء جميع النتائج لكنه سوف يحصد ثمار انتصاره وصموده بعدما ترسخت بوعي لديه تقاليد الاعتماد على الموارد الوطنية وبفعل تعميم القيادات الإيرانية لروح الابتكار والإنتاج في التصدي للضغوط الاستعمارية المبنية على عقيدة العزل والحصار ومراهنة الإسقاط بعد الإضعاف والاستنزاف وبعدما تهاوى كل ذلك نتيجة الصمود والمقاومة حانت ساعة الحقيقة بتسليم أميركي غربي صريح بعد ستة وثلاثين عاما من العداوة والحروب والمؤامرات الفاشلة.
ثالثا من خلال إبراز الأميركي كمفاوض محوري في مواجهة إيران جرت عملية تزييف مقصودة لمضمون التفاوض بين إيران والمجموعة الدولية التي تشارك فيها كل من الصين وروسيا وألمانيا إلى جانب الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والموقفان الروسي والصيني تميزا بمساندة حقوق إيران بامتلاك التكنولوجيا النووية وقد ربطت خلال العقود الثلاثة الماضية كلا من بكين وموسكو شراكة عميقة ومتطورة مع طهران عززها التطلع إلى إخراج العالم من قبضة الهيمنة الأحادية من خلال تحالف يواصل تقدمه في جميع المجالات وعبر مواقف مشتركة نسجت نواة لجبهة عالمية تتقدمها القوى الثلاث الصاعدة إيران والصين وروسيا .
ترسمت معالم تلك الجبهة من خلال علاقات اقتصادية وتكنولوجية متقدمة شكلت سندا جديا لإيران في مقاومة الحصار الغربي وعبرت عن وجودها بلقاء توثق في ميادين الصراع العالمي ضد الهيمنة الأميركية الأحادية انطلاقا من دعم سوريا الحليف المحوري الذي تلتقي الدول الثلاث على مساندته في صد العدوان الاستعماري وبينما كانت بريطانيا منضبطة جدا بالقرار الأميركي شكل استعجالها إلى إعادة العلاقات مع إيران بعد إعلان جنيف استجابة لتكليف اميركي بمهام الاستكشاف السياسي والاقتصادي للمرحلة الجديدة من علاقة إيران بالغرب فإن فرنسا التي لعبت دور المفاوض الأشد تطرفا كانت تمثل هواجس إسرائيل وبعض الحكومات العربية والكومبارس الأميركي الموظف بإتقان للمساومة عبر التشدد ورفع السقف خلال المفاوضات ولذلك فخارطة لوزان هي خارطة التوازن العالمي الجديد.
مشهد اجتماع الدول العظمى في العالم لمفاوضة إيران لسنوات كان بذاته معبرا عن حقيقة الإنجاز الإيراني وهو يحمل بعدا مهما في مستقبل العلاقات الدولية والموقعون على تفاهم لوزان هم نادي القوى الكبرى الذي بات بانضمام إيران كناية عن مجموعة الثلاثة ( روسيا والصين وإيران ) زائد ثلاثة ( الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا) زائد واحد هو ألمانيا الدولة الغربية الحليفة للولايات المتحدة وإسرائيل الباحثة عن مصالحها الاقتصادية بتمايزات شكلية عن شركائها الغربيين!