ما هو مشروع إيران؟
غالب قنديل
قبل انتصار الثورة الإيرانية كان نظام الشاه حليفاً موثوقاً لـ«إسرائيل» وشريكاً كبيراً للولايات المتحدة ولدول الاستعمار الغربي في المنطقة، وقد بلغ مرتبة من النفوذ داخل منظومة الهيمنة الاستعمارية أتاحت له التفويض بمهمات ووظائف إقليمية بالوكالة عن الغرب، فعُرف بشرطي الخليج. وكان ذلك النظام قد خطا إلى مشروعه النووي بدعم من الغرب، وكانت إيران كما هي اليوم بلداً تعتنق غالبيته المذهب الشيعي، وهما عنصران لم يثيرا أي حساسية لدى حلفاء الشاه وأصدقائه من الحكومات العربية الموالية للغرب التي تعاونت معه وشاركته في مجالات عدة تجارية ونفطية وأمنية وسياسية، وتلك الحكومات تستعدي إيران اليوم وتشنّ عليها الحملات السياسية والإعلامية.
أولاً: منذ انتصار الثورة وقيام الجمهورية في إيران جاهرت القيادة الإيرانية ببرنامجها الاستقلالي وبعزمها على بناء قدرات اقتصادية متطوّرة، بالاعتماد على موارد إيران الغنية والمتنوّعة.
بإرادة سياسية صلبة تقدّم الإيرانيون في عملية البناء، وتحمّلوا تضحيات كبيرة، وتمحور مشروعهم الداخلي على إقامة مجتمع جديد انطلاقاً من إعادة توزيع الثروة، وفي ظلّ تحمّل الدولة الفتية الجديدة لمسؤوليات الرعاية الصحية والاجتماعية والتعليمية، وبصورة مكّنت الجمهورية الإسلامية من تحقيق ثورة صناعية وتكنولوجية يقودها جيش من المهندسات والمهندسين والباحثين الأكاديميين في جميع العلوم الحديثة، وجرى ذلك كله في ظلّ مواصلة بناء المؤسسات على الاحتكام إلى الإرادة الشعبية من خلال صناديق الاقتراع، وهو ما أتاح تجديد الحياة السياسية وأفسح في المجال أمام تعدّدية انتخابية تنافسية لا يعرف خصوم طهران الإقليميون شيئاً منها.
ثانياً: انساقت حكومات وجهات عربية عدة في ترويج أكذوبة الغرب عن القنبلة النووية الإيرانية وتصويرها كأداة مزعومة للهيمنة الإقليمية، بينما تسعى إيران فعلياً إلى امتلاك التكنولوجيا الصناعية المتقدّمة لبناء قوتها الاقتصادية.
أما القوة العسكرية الإيرانية فهي مؤسسة على عقيدة الدفاع ضدّ العدوان وحماية الاستقلال الإيراني، ولم تسجل منذ قيام الجمهورية الإسلامية أيّ بادرة إقليمية يمكن وضعها في خانة اتهام إيران بانتهاج طريق العدوان ضدّ أي دولة مجاورة، بل كانت الاعتداءات ومحاولات التخريب تنطلق لاستهداف إيران بدعم وتمويل وتدبير من أطراف وجهات عربية تعادي إيران كامتداد للعداء الغربي ضدّ هذه الدولة الإقليمية الفاعلة التي فرضت حضورها في العالم والمنطقة وهي تقدّم الدليل على مدى وهن الإرادة السياسية عند خصومها العرب الذي يتصرّفون كتابعين للغرب ومخططاته، ويبدّلون أولوياتهم تبعاً لمشيئته ويكفي للدلالة ما حصدته إيران من تطوّر ونهوض اقتصادي وصناعي بينما تبدّد ثروات العرب الطائلة خارج هموم التنمية والتقدّم الاجتماعي والحضاري.
ثالثاً: يمكن لنا الحديث عن المشروع الإيراني انطلاقاً من عملية التغيير التي جرت في المجتمع بصورة تحفظ حقوقاً متساوية لسائر المواطنين، ومن يتعرّف عن قرب إلى التجربة الإيرانية الغنية يجد في التوجهات الإعلامية والثقافية للدولة الإيرانية دعوات متواصلة لرفض التمييز الطائفي أو المذهبي انطلاقاً من أولويات الاستقرار الإيراني، ومن فهم خصائص الجوار وحساسياته، بينما تحرص القيادة الإيرانية على مد اليد إلى جميع حكومات الجوار من دون استثناء، فهي رسمت هويتها المبدئية برفض الاعتراف بالكيان الصهيوني، وبمساندة الشعب الفلسطيني وقوى المقاومة الفلسطينية، لأنها تمثل حصيلة التجربة التاريخية للمنطقة منذ اغتصاب فلسطين، والتي تقود إلى فهم الدور المحوري لـ«إسرائيل» كمركز عدواني متقدّم مهمته حماية الهيمنة الاستعمارية الغربية، ولذا لم يكن من المصادفة في فجر الثورة تسليم سفارة الكيان الغاصب إلى منظمة التحرير في خطوة كانت ذات دلالة مؤسسة لسياسة إيران الإقليمية ولم يكن من المصادفة تأسيس التحالف السوري الإيراني على قاعدة الصمود في وجه «إسرائيل»، واحتضان فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين.
ما سمّاه المتحاملون على إيران بالمشروع الفارسي في المنطقة موجه ضدّ العدوانية الصهيونية والهيمنة الغربية الاستعمارية، وبالتالي يصبح من قبيل التحريض الأعمى والديماغوجيا الكلام عن هذا المشروع المزعوم وكأنه موجه ضدّ العرب.
رابعاً: حرصت إيران على عدم الانجرار إلى مواجهات إقليمية تضعها في نزاع مع أيّ دولة عربية، وهي كانت الجهة المعتدى عليها في الحرب التي شنّتها حكومة بغداد في عهد الرئيس الراحل صدام حسين الذي بادر إلى إلغاء اتفاق الجزائر الذي عقده مع نظام الشاه وأعلن الحرب على الجمهورية الإيرانية فور قيامها بتحريض أميركي غربي، وبدعم شامل من حكومات الخليج بقيادة المملكة السعودية وعلى رغم معرفتها الدقيقة بالأدوار والمواقف حرصت القيادة الإيرانية على الاحتفاظ بالتواصل الممكن مع حكومات المنطقة وظلت ترسل عروض التعاون.
إيران مصدر قوة للعرب بتحالفها مع الدولة الوطنية العلمانية السورية والمقاومة اللبنانية في مجابهة الاحتلال الصهيوني للبنان، وعبر مساندة المقاومة الفلسطينية سمح الدعم الإيراني ببناء منظومات القوة التي أجبرت الاحتلال على الهروب من قطاع غزة، كما هرب من لبنان، والقوة الاقتصادية والتقنية الإيرانية المتقدمة توفر اليوم فرصة للعرب للتعلم من التجربة الإيرانية ولاكتساب الخبرات والمعارف المهمة، والنموذج الإيراني في تكوين قوة ذاتية مستقلة ومتطورة يقدّم درساً مهمّاً للعرب في صياغة مشروع التحرّر والتنمية، أما مشروع إيران الإقليمي فهو مشروع محور المقاومة لصدّ الخطر الصهيوني وردعه، وهو مشروع علاقات شراكة وجوار قاعدتها الاستقلال والإرادة الحرة المناهضة للهيمنة، وما يردّده البعض عن أطماع إيرانية أو نفوذ إيراني ليس سوى افتراء يتوخى أصحابه مراكمة الحواجز النفسية المعيقة للتفاعل البناء مع النموذج الإيراني ولأنهم يخشون على مصالحهم من يقظة الجماهير وإدراكها لقوة الطريق الإيراني إلى الاستقلال والتقدم كنموذج يحتذى في تحدّي الهيمنة الاستعمارية وتحقيق الكرامة القومية.