بقلم غالب قنديل

لا بديل عن التفاوض مع إيران

irann

غالب قنديل

الهيمنة الأميركية الأحادية على العالم لا تزال هي المبدأ الاستراتيجي الذي تلتقي عليه النخب الحاكمة في الولايات المتحدة بجميع تياراتها واتجاهاتها. ويبدو من النقاشات الجارية أن خيار المواجهة مع القوى العالمية المنافسة بجميع الأدوات والوسائل الممكنة هو ما يجمع الحزبين الجمهوري والديمقراطي، اللذين يخوضان مواجهة ضروساً يجسّدها التوتر المتصاعد بين الكونغرس والبيت الأبيض، الذي حركته الجدالات والمبادرات الجمهورية بمناسبة دعوة بنيامين نتنياهو إلى واشنطن والتقدّم في مسار التفاوض حول الملف النووي الإيراني.

تبيّنت الصلة العضوية بين الحدثين في مضمون خطاب زعيم «الليكود» الذي ركز على الاتفاق النووي المحتمل التوصل إليه، وحيث شكلت رسائل الشيوخ والنواب المحافظين إلى القيادة الإيرانية محاولة سافرة لتقويض فرص الاتفاق عبر الطعن بمصداقية الرئيس الأميركي والتشكيك في التزام حكومة الولايات المتحدة بمواصلة تنفيذ ما قد يتعهّد به أوباما بعد انتهاء ولايته، خصوصاً في مسار رفع العقوبات عن إيران الذي يشكل عنواناً محورياً في الاتفاق من وجهة النظر الإيرانية.

لم يكن التفاوض مع إيران خيار حزب بمفرده، فقد توصلت المؤسسة الأميركية الحاكمة إلى تقدير الموقف في الموضوع الإيراني في عهد جورج دبليو بوش والسطوة الأوسع للمحافظين الجدد. ومنذ وثيقة بايكر هاملتون رجحت المؤسسة الحاكمة الأميركية إتباع طريق التفاوض حول الملف النووي. والطريق إلى تبلور هذا التقدير استغرق ما يزيد على ثلاثين عاماً جربت خلالها سائر أنواع القوة الناعمة والخشنة، وشتى صنوف العقوبات وتدابير الحصار التي تصدت لها إيران بعقيدة تحويل التهديد إلى فرص أتاحت لها تنمية قدراتها الذاتية ومضاعفة قوتها الاقتصادية بتنمية مستقلة لمواردها الوطنية، وبعقد شراكات دولية من خلال علاقات وثيقة مع القوى العالمية الشرقية الصاعدة والمناهضة للهيمنة الأميركية والغربية في العالم.

تسنى للمجتمع الإيراني بثقافة الصمود ومقاومة الضغوط أن يتقدم في طريق الثورة التقنية والصناعية الخلاقة وأن يتحمل تضحيات جزيلة من أجل مستقبل البلاد وتقدمها كقوة عظمى فاعلة في محيطها وفي العالم تحمي حقوقها وسيادتها واستقلالها بقوة دفاعية استراتيجية يحسب لها الحساب وفي الحساب الأميركي لكلفة الخيار العسكري منذ حرب تموز 2006 وبعد التهديد بضرب سورية خريف 2013. إن المغامرة العسكرية بالاشتباك مع إيران ستقود إلى التورط في حرب كبرى وتشعل حرائق واسعة النطاق تهدد المصالح الأميركية في المنطقة وستهدد إسرائيل بعواقب وخيمة.

في هذا المناخ شكلت هزائم المغامرات الحربية الأميركية في أفغانستان والعراق والحروب «الإسرائيلية» في لبنان وغزة، رصيداً متعاظماً من الفشل الذي توجه الإخفاق الأميركي المتواصل في محاولة النيل من الدولة الوطنية السورية الحليف الأبرز لإيران منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً والقوة المركزية المناهضة للهيمنة الاستعمارية والمعادية لـ«إسرائيل» التي احتضنت قوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية بالشراكة مع إيران.

لا يملك الجمهوريون والمحافظون الجدد وصفة مختلفة عن الاتفاق التفاوضي، ولا قدرة لدى الإمبراطورية الأميركية المنهكة من حروبها الخاسرة واقتصادها العاثر على إحياء المغامرات الحربية أياً كان الحزب الحاكم، والجمهوريون والمحافظون ومتطرفو اللوبي الصهيوني يجادلون علانية في بنود الاتفاق المحتمل مع إيران وجداوله الزمنية المتصلة بالتخصيب وبرفع العقوبات، ومثلهم يفعل نتنياهو حيث يتبنى التشدد في معدلات التخصيب وعدد أجهزة الطرد المركزي، ويدعو إلى إبطاء عملية رفع العقوبات عن إيران لتأخير انعتاق قوتها الاقتصادية والسياسية بمجرد رفع الحصار السياسي والحظر التجاري والمصرفي عنها حيث تخشى أوساط اليمين الأميركي وقيادة الليكود انهيارات متسارعة لمعاقل النفوذ الغربي في المنطقة كما حصل في الهند الصينية بعد الاعتراف بالصين الشعبية.

الشركات الأميركية الكبرى بالمقابل ومنذ اتفاق جنيف التفاوضي قبل عامين بين إيران ومجموعة الـ5+1 أرسلت كشافيها البريطانيين إلى إيران عبر وفود تجارية تضم خبراء مكلفين بالتعرف إلى مجالات العمل المتاحة في الأسواق الإيرانية والشراكات التجارية المحتملة والجاذبة للاستثمارات في زمن العطش الناتج من الركود الاقتصادي الأميركي والغربي عموماً وتتطلع تلك الشركات إلى عقود دسمة تتوقع أن تحصدها من عودة العلاقات مع إيران في المرحلة المقبلة.

ما بعد الاتفاق النووي والاعتراف بإيران كقوة عظمى سنشهد تغيراً في شكل الصراع، فخطوط الاشتباك والاختلاف بين واشنطن وطهران ستبقى قائمة ومستمرة، خصوصاً ما يتصل منها بـ«إسرائيل» وبقضية فلسطين التي رفضت القيادة الإيرانية اعتبارها جزءاً من أي تفاوض أو مقايضة. وحتى القضايا الإقليمية الخلافية التي يظن البعض أنها ستكون موضع تفاوض وتفاهم رفضت إيران وضعها على جدول أعمال التفاوض النووي. والأرجح أن مستقبل العلاقات الأميركية الإيرانية هو ما يمكن اعتباره حرباً باردة إقليمية في جميع ساحات التواجد المشترك لحلفاء الجانبين من أفغانستان إلى البحرين، وحيث سيتحكم بمضمون التسويات المحتملة توازن القوى المحلي في كل بلد على حدة خارج مفهوم الصفقات الدارج في العقل السياسي التقليدي المسطح.

لكن مما لا شك فيه أنه ما بعد الاتفاق النووي ستكون قنوات النقاش والبحث في تلك الملفات مفتوحة بين الجانبين، كما هي راهناً حال العلاقة الصينية الأميركية والعلاقة الروسية الأميركية، وعلى رغم شدة الصراعات الدائرة على غير صعيد ومن استفزازية التدابير العدائية الأميركية ضد بكين وموسكو، ومن الطبيعي أن تنصبّ المناورات الأميركية المقبلة على اختبار فرص إضعاف علاقة إيران بحلفائها وشركائها الكبار في العالم والمنطقة، ويمكن من الآن التنبّؤ بفشلها المحتوم لأنّ التوجه الإيراني الاستباقي كان قطع الطرق على مثل هذه الحسابات وتعميق الشراكات الاقتصادية والاستراتيجية مع الحلفاء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى