إيران وتراجع الإمبراطورية
غالب قنديل
لايمكن الشك على الإطلاق بإخلاص الحزب الديمقراطي الأميركي لفكرة الهيمنة الأميركية الأحادية على العالم ولمحاولة جعلها قدرا مستمرا يحكم العلاقات الدولية كما لا يمكن الشك بمدى ما يعتنقه ديمقراطيو الولايات المتحدة من التزام بحيوية التحالف الأميركي الصهيوني كمحور حاسم للاستراتيجيات الأميركية في الشرق .
اولا يكاد الرئيس باراك اوباما ينهي ولايتيه الرئاسيتين وهو لم يوفر جهدا في البرهنة على إخلاصه في اعتناق تلك الفكرة وهو غامر على حافة مواجهة حرب كبرى عندما هدد بضرب سورية وحشد أساطيل الإمبراطورية في حوض المتوسط حيث كان مصير إسرائيل ووجودها في الميزان لو انطلقت شرارة الإشتباك المباشر مع القوات السورية وإيران وحزب الله ومعهم الأسطول الروسي المرابط قبالة سواحل سورية .
قبل اوباما بالمخرج الذي عرضه الرئيس فلاديميربوتين بعد حسابات القيادة العسكرية الأميركية لتبعات المواجهة ونتائجها الكارثية على إسرائيل وعلى المصالح الأميركية ويقينا فإن التراجع عن قرار العدوان الأميركي على سورية كان قرار المؤسسة الأميركية الحاكمة وخصوصا قرار مجمع الجنرالات وكبار القادة في البنتاغون ومعه تكتلات الشركات الأميركية الكبرى في مجالات الطاقة والمعلوماتية والنفط ولم يكن التراجع بالتالي قرار الرئيس الديمقراطي باراك اوباما بمفرده ويومها تقرر حسم التوجه العملي إلى بدء التفاوض مع إيران لأن اختبار القوة في سورية أظهر كلفة الاستمرار في نهج الاستفزاز والتحدي وصعوبة إخضاع إيران للشروط الأميركية .
عندما زار جون كيري كلا من تل أبيب والرياض بعد عاصفة “التمرد ” التي أثارها الحليفان الأقرب إلى واشنطن كانت معادلته اكثر من واضحة : بديل الحل التفاوضي مع إيران هو الحرب ونحن الولايات المتحدة الأميركية عاجزون عن تحمل كلفتها وإن كانت لديكم وصفة أخرى غير التفاوض فأخبرونا وجاءت النتيجة تراجعا عن لهجة التصعيد والتهديد الإسرائيلي والسعودي وانصب كلام حليفي الولايات المتحدة على مناقشة شروط الاتفاق المحتمل بدلا من رفض مبدأ التفاوض الذي تبين انه الطريق الوحيد الممكن نظرا لما تمتلكه إيران من قدرات ذاتية عملاقة ومن تحالفات وشراكات استراتيجية في المنطقة والعالم .
ثانيا أوضح الكاتب الاستراتيجي الأميركي مايكل كلير في مقالته حول الخطة الجمهورية لانتخابات 2016 الرئاسية التزام الجمهوريين وتكتل المحافظين الجدد باعتناق مبدأ حماية الهيمنة الأميركية الأحادية انطلاقا من تصعيد الحرب الباردة الأميركية ضد الصين وروسيا وإيران وعلى قاعدة عجز الإمبراطورية الأميركية عن خوض حروب جديدة ( عبر استخدام الجيوش والأساطيل ) بعد هزائمها المتلاحقة في العراق وأفغانستان وفشلها في سورية وقد ربط كلير هذا العجز بما وصفه ” التعب العام خلال الحروب الأميركية في الشرق الأوسط الكبير إلى جانب تصاعد مشاكل الميزانية وعدم وجود دعم من حلفاء واشنطن ” ليخلص إلى استنتاج ان خطة المحافظين الجدد وقيادة الحزب الجمهوري تعتمد خيار تصعيد الحرب الباردة وتنطلق من محاصرة موقع روسيا في سوق الطاقة الأروربي عبر فرض هيمنة الشركات الأميركية على موارد الطاقة في المكسيك وكندا واحتلال موقع روسيا الحالي كمصدر رئيسي للطاقة إلى بلدان الاتحاد الأوروبي وبالتالي يوضح ان تصعيد الحرب الباردة يستهدف ثلاثي القوى الصاعدة : روسيا والصين وإيران.
استعان الجمهوريون والمحافظون بنتنياهو في حملتهم الانتخابية لإيصال مرشح جمهوري إلى البيت الأبيض ودشنوها بخطابه في الكونغرس وهو في الواقع لم يتقدم باقتراح عملي وواقعي يمكن ان يعتبر بديلا جديا لخيار التفاوض مع إيران بل إنه لم يزعم ذلك في خطابه فالمؤدى العملي لكلام نتنياهو هو التشدد في فرض قيود على المشروع النووي الإيراني تحت شعار منع طهران من امتلاك القنبلة التي لا تريدها، ولم يكن نتنياهو يخوض الحملة الجمهورية فقط بصدامه مع إدارة اوباما بل يغطي جانبا من حملته هو في انتخابات الكنيست بتحديه للرئيس الأميركي في حركة تبدو عكس السير لأن ما فعله اوباما لإسرائيل ومعها سياسيا وعسكريا يتخطى ما قام به العديد من الرؤساء الأميركيين الجمهوريين والديمقراطيين على السواء وقد حاول نتنياهو ان يقطع الطريق على تذكير اوباما له بذلك فأورده في مستهل الخطاب.
ثالثا المعضلة الحقيقية التي تخنق المعسكر الغربي في منطقتنا والعالم هي تراجع الإمبراطورية الأميركية وقدراتها امام تحولات عالمية متسارعة تشهد نهوض القوى الجديدة وسقوط عقيدة منع قيام القوى المنافسة التي طبقتها الولايات المتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وخاضت في ظلها حروبا متلاحقة وهذا التراجع الأميركي الظاهر في جميع المجالات بات حقيقة عملية تفرض نفسها على المعادلات الدولية المتحركة وعلى الرغم من إشهار جميع الأسلحة والأدوات الممكنة لفرض واقع مغاير يبدو ان زمانه قد ولى سياسيا وتاريخيا .
على الرغم من احتفاظ الولايات المتحدة بمواقع متقدمة على خرائط المنافسة العالمية في العديد من المجالات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية إلا انها تواجه معضلة الفشل في إخضاع المنافسين الذين ظهروا بقوة في تلك المجالات نفسها ومن الواضح ان طرق التفاوض الصعب على شروط المساكنة هي البديل الأجدى من الاستنزاف في حروب وصراعات جربت فلم تفلح جميعا في تسهيل إخضاع المنافسين وهذا هو ما يدفع الولايات المتحدة إلى الجمع المحكم بين الضغوط والتفاوض السياسي وفقا لآليات الحرب الباردة الجديدة .
إيران هي صين القرن الواحد والعشرين والاعتراف بها كقوة كبرى يبدو الطريق الأقل كلفة اما الصراخ الإسرائيلي فلا يحجب عن مواقع التخطيط الأميركية حقائق العجز الإسرائيلي في المنطقة المحكومة بمعادلات الردع القاهرة وسقوط خرافة القوة التي لا تقهر والعجز المتواصل عن إحيائها منذ اندحار الاحتلال الإسرئيلي عن جنوب لبنان وصراخ نتنياهو لا يطمس حقيقة التبعية الإسرائيلية الكاملة للإمبراطورية الأميركية التي اظهرتها حروب صهيون الفاشلة طيلة خمسة عشر عاما أعقبت هزيمة إسرائيل امام المقاومة اللبنانية التي تدعمها سورية وإيران وبينما يسقط صمود سورية جميع المحاولات الأميركية لقلب المعادلات وتبرهن التطورات على انه مقابل الصعود الإيراني المتواصل ثمة إمبراطورية أميركية عظمى خسرت الكثير من مكانتها المهيمنة ومن قدراتها لكن عملاءها وتوابعها لم يتعودوا بعد على قبول هذه الحقيقة والاعتراف بها .