هكذا خاض الجيش “معركة التلٰتين”.. وأحكم السيطرة على جبهة عرسال – رأس بعلبك هدى شديد
ما بعد ٢٦ شباط ٢٠١٥ لن يكون كما قبله. في هذا التاريخ سجّل الجيش اللبناني انجازاً نوعياً بالمعنى العسكري والميداني، في زمن أهل السياسة في عطلة، ولا تدخٰل لهم في تحرٰكه كما كان يحصل قبل عملية اختطاف العسكريين. ففي عملية عسكرية اتسمت بالسرية التامة وعنصر المفاجأة وسرعة التنفيذ، يضاف اليها توافر الامكانات المطلوبة، تمكٰنت وحدات الجيش من بناء خط دفاعي متماسك كفيل بحماية جبهة رأس بعلبك- القاع وخاصرة عرسال الشمالية، محققاً بذلك انتصاراً ستظهر قيمته العسكرية والمعنوية في ما يؤسس له من إنجازات ميدانية مقبلة. وقائد الجيش العماد جان قهوجي الذي أشرف على العملية لحظة بلحظة ، كانت اوامره صارمة بعدم التهاون بعد اليوم مع المسلحين مهما كان الثمن، واعداً بانتصارات متتالية من الآن وصاعداً.
فكيف تبدّلت مع هذه العملية الوقائع الميدانية في جبهة عرسال- رأس بعلبك؟
في العام ٢٠١٤ وما قبله، كانت سرية فوج الحدود البرٰي متمركزة على تلّة “أم خالد” وترسل يومياً دورية آلية “مدولبة” للتمركز على “تلّة الحمرا” المشرفة على التلٰة الأولى لتأمين حماية متبادلة ، وقد تعرّضت هذه الدورية في الثاني من كانون الأول الماضي لكمين نفٰذته مجموعة ارهابية مسلٰحة ، مما أدى الى استشهاد ستة عسكريين.
بعد تلك الحادثة تقرّر إرسال مجموعة معزّزة يومياً ،سيراً على الأقدام لمسافة ٢ كيلومتر ، مع عتادهم الى “تلّة الحمرا” بمعدل دوريتين كل ٢٤ ساعة ومن دون تحصينات.
ولأن “تلٰة الحمرا” تعتبر نقطة منعزلة عن قوى باقي الفوج ، بدا واضحاً ان المسلٰحين كانوا يراقبونها، فأقدموا على مهاجمة المجموعة القادمة اليها، واستشهد للجيش ستة عسكريين وضابط اثناء استرداد هذه التلٰة في ٢٣ كانون الثاني ٢٠١٥ .
ولأن ” تلّة الحمرا” نقطة استراتيجية للجيش وتؤمٰن حماية مركز تلّة “أم خالد”، وتشرف على كامل السهل الممتدّ باتجاه عرسال استردٰها الجيش وتمركز عليها قوى من الفوج الرابع وقام بتحصينها ، وكانت اعمال الترصين يدوية لعدم وجود مسلك آمن للآليات ، الى أن تمٰ استحداث مسلك محميّ الى التلٰة ، التي باتت موقعاً عسكرياً ممسوكاً وفاعلاً بامتياز. وعلى اول الجهة الغربية ومن خط يمتدّ حوالى ٤ كيلومتر باتجاه غرب شرق ، تقع “تلٰة الجرش” (مرتفع ١٦٠١ ) ، ومن الجهة الشرقية وعلى مسافة ٨٠٠ متر التلّة الأخرى ( المرتفع ١٥٩٣)، ولهاتين التلٰتين اهمية تكتيكية لما تشكلانه من نقطة حاكمة في جرود رأس بعلبك ، فهمًا تشرفان على “وادي رافق”، وعلى “تلّة الحمرا” ، كما على الطريق التي استحدثها الجيش على “تلّة الحمرا”. ول” تلة الحمرا” أهميتها الاستراتيجية كونها تشكّل امتداداً لخط جبلي دفاعي يمتدّ من جبل الصليب في القاع مروراً بتلتيْ “الحمرا” و”أم خالد”، وهو الذي يحمي منطقتي رأس بعلبك من تسلّل المجموعات المسلّحة ، التي كانت حاولت التقدّم باتجاه البلدة لتنفيذ عملية قتل جماعي بحق مواطنين لاسيما مسيحيين.
وفق ما كشفته مصادر عسكرية معنيٰة ل “النهار” ان السيطرة التي أحكمتها وحدات الجيش على مرتفعي “صدر الجرش ” و”حرف الجرش”، أول من أمس ، تعطي الجيش أفضليات السيطرة على “جبل المخيرمة” ، المرتفع ( ١٥٩١ ) تقاطع الطرق (مراح العرب) التي تشكّل نقطة حسٰاسة لتحركات المسلحين ، وبعدها يمكن تحقيق التماس مع المسلحين المتواجدين في “تلٰة خلف” حيث يقيمون دشماً، كما تشكّل تلك التلّة نقطة حاكمة للتلتيْن ” شعاب المخيرمة” وشميس العشّ” . وبذلك تنتهي عمليات المسلحين المتكرّرة على الجيش ، ومحاولاتهم لخطف عسكريين.
وفي الواقع، اصبح المرتفع ( ١٥٩٣) موقعاً دفاعياً محصّناً بامتياز من خلال مضاعفة الاعمال الهندسية السريعة. واستطاعت وحدات الجيش خلال فترة عشر ساعات من بناء ١٥ دشماً لحماية العسكريين ، وطمر مستوعب كبير للمنامة رغم تعرٰضهم لإطلاق نار وعمليات قنص من المسلحين ، بينما عمدت وحدات الى شغل المسلحين برمايات دقيقة. وتتواصل أعمال الترصين ، ويتوقّع أن يصبح هذا الموقع نقطة محصّنة خلال أسبوعين ، فيستحيل بعدها على المسلحين مهاجمته او القيام بأي اعتداء على قوى الجيش ، فتصبح المنطقة آمنة كلياً بعد ذلك.
وعلم ان وحدات أساسية من الفوج الرابع هي التي نفّذت العملية “رأس حربة” ووحدة منفّذة، اضافة الى وحدات أخرى، وبعدما حدٰدت الساعة الصفر صباح ٢٦ شباط الجاري، انتقلت كل الوحدات المكلٰفة بالتنفيذ الى محيط قيادة فوج الحدود البريٰة المتمركزة في المنطقة. وفي قصف تمهيدي ، فتحت المدفعية النيران . ومع الضوء الأول حلّقت طائرة “سيسنا” فوق بقعة العمليات.ثم انطلقت فصيلة استطلاع سيرًا وأمسكت بالمرتفع ١٦٠١ وتمركزت عليه. وتأمٰن مسلك تقدٰم الآليات من سهلات النجاصة الى المرتفع المحدٰد كهدف أول، ولتأمين الحيطة للقوى التي ستنفٰذ. وعند الساعة الصفر انطلقت احدى سرايا فوج التدخٰل معزّزة بالهندسة اللازمة باتجاه المرتفع ١٥٩٣ ، وتبعتها سريّة اخرى معزٰزة بالهندسة الضرورية باتجاه المرتفع ١٦٠١ (الهدف باء)، وألحقت بها فصيلة استطلاع. تمّ الامساك بالمرتفعيْن عبر العملية الخاطفة التي لم تستغرق أكثر من ثلاثة ارباع الساعة. ثم بدأت فصيلة الهندسة بأعمال الترصين وبناء الدشم وإقامة السواتر الترابية اللازمة.
ووفق المصادر العسكرية المعنية، استطاعت وحدات الفوج الرابع بمؤازرة الهندسة من تفكيك حوالى ١٧ عبوة ناسفة أعدٰها المسلحون باحتراف تام ، مما يؤكد أن هؤلاء ليسوا هواة لا بل مدرّبون ويضطلعون بخبرات توفّرها لها دول. وقد أصيب للجيش اثناء العملية دبابة بصاروخ موجٰه عن بعد، فجرح ثلاثة عناصر داخلها وتمّ نقلهم للمعالجة .
وفي المحصٰلة، حقّقت العملية من خلال عنصر المباغتة، احتلال الجيش للتلتيْن المهمتيْن وتحصينهما بسرعة قياسية ، فضلاً عن الخسائر الكبرى التي كبّدها الجيش للجماعات المسلّحة، في العديد والعتاد ومصادرة الأسلحة وبثّ حالة الهلع والخوف في صفوفهم، اضافة الى تسجيل نحو ١٥ جثة. وهذه الصورة رصدتها طائرات الاستطلاع من خلال مراقبتهم.
(النهار)