الأحزاب التقليدية تتراجع في فرنسا عامر نعيم الياس
يطلق عليها اسم الأحزاب الجمهورية، كنايةً عن الأحزاب السياسية التقليدية الملتزمة بمبادئ الجمهورية الخامسة، عنوانٌ يحمل بين طياته فرزاً أوتوماتيكياً لخيارات الناخب، وتخويناً غير مباشر، دون الحاجة إلى المرور بملفات التخوين المتبادل على الهواء مباشرةً والفرز بين اللاوطني والوطني، فالفرز بين حزب للجمهورية وحزب ليس للجمهورية كافٍ لإيصال الرسالة والتأثير على الرأي العام، هذا ما جرى في فرنسا وعموم أوروبا خلال ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما أثبت جدواه في شكل تداول السلطة بين حزبين لا أكثر على مستوى «رواد» و«قائدي حروب» الدمقرطة على المستوى العالمي، لكن هل تجري الأمور بالسلاسة التي جرت بها سابقاً، وهل تستمرّ الأحزاب التقليدية في الحكم من دون منازع في أوروبا؟
بعد الفوز الذي حققه سيريزا في اليونان، والانقلاب على المؤسسات الأوروبية ومعاهداتها، يبدو أنّ الشعوب باتت أكثر فأكثر في مواجهة النخب التقليدية، فعقارب الساعة بدأت بالدوران، والانقسامات داخل الأحزاب التقليدية باتت سمة مميّزة لمواجهة هذا الطارئ المفاجئ، ولنا في فرنسا المثال الأبرز على ذلك في الانتخابات التشريعية الجزئية التي جرت جولتها الأولى في مدينة «دوبز» يوم الأحد الماضي، حيث احتلّ مرشح الجبهة الوطنية «اليمين الراديكالي» المرتبة الأولى متقدّماً على مرشح الحزب الاشتراكي، ومستبعداً مرشح حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية اليميني من المنافسة في الجولة الثانية، فقد حصلت صوفي مونتيل مرشحة الجبهة الوطنية على ما نسبته 32.60 من أصوات الناخبين، بينما حلّ مرشح الحزب الاشتراكي فريدريك باربييه في المركز الثاني بعد حصوله على 28.85 من الأصوات، فيما حلَّ مرشح حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية شارل ديموج في المركز الثالث بحصوله على 26.54 من الأصوات.
للمرة الخامسة من أصل 14 انتخابات تشريعية جزئية ينتقل مرشح الجبهة الوطنية إلى الجولة الثانية، وبين انتخابات 2012 و2015 تراجع حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية الذي يقوده الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي في مواجهة الجبهة الوطنية، فمن نسبة تصويت لمرشح الحزب تتجاوز الـ40 عام 2012، انخفض التأييد اليوم إلى ما دون الـ27 ، وهو ما أفرز انقساماً في صفوف الحزب الفرنسي اليميني بين جناحين الأول يقوده رئيس الحزب ساركوزي الذي يدعو إلى «لا، لا» أيّ عدم التصويت إلى جانب أيٍّ من المرشحين المتنافسين سواء من الحزب الاشتراكي أو الجبهة الوطنية، فيما دعا عمدة بوردو، ورئيس الوزراء الفرنسي الأسبق، ومرشح الحزب المبدئي في الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2017، آلان جوبيه، إلى التصويت لمصلحة مرشح الحزب الاشتراكي «فالخطر الأساس يأتي من الجبهة الوطنية»، وعلى الرغم من هذا الانقسام فاز مرشح الحزب الاشتراكي بفارق ثلاث نقاط عن مرشحة الجبهة الوطنية التي حصلت على 48.61 من الأصوات وهو ما يؤشر بدوره إلى المرحلة الجديدة في المشهد الحزبي الفرنسي.
بالتوازي مع هذا الانقسام الذي يتكرّس داخل حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية، فإنّ المعطيات الإحصائية تشير إلى أنّ تقدم الجبهة الوطنية ليس مستنداً إلى ارتفاع مستوى التأييد لها، بقدر ما يستند إلى الانقسامات بين الأحزاب التقليدية أولاً، وثانياً، وهو الأهمّ، إلى انخفاض شعبية الأحزاب التقليدية في فرنسا، فعدد الأصوات التي وضعت مرشحة الجبهة الوطنية في دوبز في المركز الأول لم يتجاوز الـ 8382 صوتاً، فيما حصلت الجبهة في انتخابات 2012 على 9605 أصوات، وهنا نلحظ تراجعاً في عدد الأصوات التي حصلت عليها الجبهة الوطنية بمقدار 13 ، لكن في المقابل فإنّ نسب تراجع التأييد للحزب الاشتراكي في دوبز عن الانتخابات التشريعية السابقة بلغ 55 ، فيما انخفضت نسب التصويت لصالح حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية بمقدار 27 عن انتخابات عام 2012.
خريطةٌ حزبية جديدة ترتسم على امتداد مساحة القارة الأوروبية، بين يسار راديكالي ويمين راديكالي، صعودٌ أربك وسيربك الأحزاب السياسية التقليدية، في ضوء أزمة اقتصادية وتراجع في معدلات للنمو وتجربة جديدة لحكم الأحزاب الجديدة، من المتوقع أن تساهم أكثر فأكثر في تعميق مأزقها.
(البناء)