نقاط على حروف حريرية
غالب قنديل
تكرر مؤخرا كلام كثير عن تجربة الرئيس الراحل رفيق الحريري بمناسبة ذكرى اغتياله في 14 شباط واستعرض تيار المستقبل مآثره في تقديم منح التعليم التي شملت ثلاثين ألفا من الشباب اللبناني خلال عقدي الثمانيات والتسعينيات في جامعات أجنبية ومحلية بينما يستمر الكلام عن مشروعه الاعماري ونهجه الاقتصادي بوصفهما خشبة خلاص لبنان من أزماته بينما تدعو النتائج الاقتصادية والمالية والتغييرات الدولية والإقليمية إلى الشك في اعتبار ذلك البرنامج إطارا فعليا لحل أزمات البلد التي ساهمت الحريرية في نشوئها وتماديها.
اولا تشترك الحريرية في تقديم المنح والهبات التعليمية مع تجمعات وزعامات سياسية عديدة في لبنان لا تتباهى بما قدمته ولا يحفظ لها في الذاكرة السياسية جميل فثمة عشرات الآلاف ممن درسوا وتخرجوا من جامعات الاتحاد السوفيتي السابق ومنظومة الدول الاشتراكية السابقة بمنح قدمتها لعقود متواصلة احزاب عديدة أبرزها الحزب الشيوعي اللبناني والحزب التقدمي الاشتراكي وثمة في لبنان آلاف مؤلفة ممن درسوا وتخرجوا من سورية وجامعاتها التي ما تزال تخصص حتى اليوم مقاعدا للطلاب اللبنانيين وهي ظاهرة شملت في العقود الماضية دولا عربية اخرى مثل مصر عبدالناصر في الستينيات وبنسب أقل كلا من الجزائر والعراق وهذا في مجموعه يطال عشرات آلاف المهندسين والأطباء والاختصاصيين أضعاف أضعاف من شملتهم هبات الحريرية ولم يستعرض احد من جميع هذه الجهات المانحة ما قدمه للبنانيين ولم يحملوا احدا في البلد منة وخصوصا سورية المستمرة إلى اليوم في مساعدتها التعليمية للبنانيين رغم ظروفها الصعبة والقاسية والفارق هنا هو ان الآخرين ساعدوا بصمت بينما الحريرية تفلفلش دفاترها لتذكر اللبنانيين بفضل لا يمكن إنكاره.
إن تحميل الجميل على هبة او مساعدة يمثل سقطة اخلاقية في التعامل مع متلقي الهبات وهو سمة استعراضية تهدف لصرف النفوذ وتنزع عن الهبة صفتها المزعومة لتحولها إلى أداة إخضاع وتأثير على الخيارات السياسية والإرادات الحرة لمن شملتهم المساعدة التي كانت احيانا على شكل قروض مستحقة السداد.
ثانيا تطمس الحريرية في خطابها الراهن ومنذ اغتيال الرئيس الحريري حقيقة ان الرئيس الراحل لم يكن قادرا بقواه الذاتية رغم الدعم السعودي والتبني الأميركي الغربي على حكم لبنان وفرض تقدم مشروعه الإعماري والاقتصادي والسياسي لولا الدعم السوري الذي وضع بتصرفه جميع قدرات التأثير والتحكم السورية في لبنان بدءا من حماية التطبيق الحريري المشوه لاتفاق الطائف الذي اورث ما سمي بالإحباط المسيحي وترافق مع وضع الحريري يده على مقاعد التمثيل المسيحي في البرلمان بالشراكة مع السيد وليد جنبلاط والبطريرك الماروني نصرالله صفير في ظل نفي العماد ميشال عون ومع وجود سمير جعجع في السجن ومطاردة أنصارهما ومع تحوير أحكام الدستور بتكريس أعراف انتقال السلطة الإجرائية إلى رئاسة الحكومة وليس إلى مؤسسة مجلس الوزراء مجتمعا كما نص اتفاق الطائف الذي يتباهى به الحريريون كإنجاز للمملكة السعودية بوصفها مرجعيتهم الأولى ولشخص الرئيس الراحل.
من اخطر مآثر الحريرية انها قامت بشطب مواقع تمثيلية منافسة بواسطة قوانين الانتخاب المخالفة للدستور وبدعم من التدخلات التي مارسها كل من عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي وغازي كنعان الذين شكلوا اللوبي الحريري في دمشق وسهلوا القضاء على كتلتي الرئيسين سليم الحص وعمر كرامي وأبعدوا حزب الكتائب عن الحكومات وسعوا لشطب وتحجيم كل من عارض الحريري ومشروعه الإعماري ونهجه الاقتصادي النيوليبرالي بمن فيهم أقرب الحلفاء إلى دمشق وقدموا الرعاية لمن أطاحوا بحكومة الرئيس الراحل عمر كرامي عبر ما سمي بثورة الدواليب وحموا المتورطين في لعبة المضاربة ضد الليرة وعلى رأسهم الحاكم السابق للمصرف المركزي ميشال الخوري تمهيدا لرسم صورة المنقذ للرئيس الراحل رفيق الحريري عشية الانتخابات الأولى بعد الطائف عام 1992 التي كفلت انطلاق المشروع الحريري بالهيمنة على السلطة السياسية تحت سقف المساكنة الإقليمية بين سورية الأسد والمحور الأميركي السعودي التي أعقبت حرب “عاصفة الصحراء ” وانطلاق مؤتمر مدريد.
ثالثا تغفل الحريرية حصادها المدمر اقتصاديا وماليا واجتماعيا الذي اورث دينا عاما رهيبا يكبل الاقتصاد الوطني وسحقا للفئات الاجتماعية الوسطى والفقيرة ورعاية وحماية للجماعات المتطرفة التي تروج للفكر الوهابي القاعدي منذ اغتيال الشيخ نزار الحلبي وتتعامى الحريرية عن سقوط النهج النيوليبرالي والهيمنة الأميركية الأحادية على العالم فالاستدانة الربوية كانت نهجا منظما في المشروع الإعماري الذي اطلقه الراحل الحريري وضرب قطاعات الإنتاج كانت نتيجة لسياسات متعمدة هندسها الوزير “الشاطر” فؤاد السنيورة قادت الاقتصااد الوطني بالورم العقاري والمصرفي على حساب الصناعة والزراعة والتنمية ومن أبرز الشواهد على ما فعلت الحريرية بكائية تنمية طرابلس التي يرددها حزب حكم البلاد حكما مطلقا لأكثر من عشر سنوات على الأقل ولم يقدم لأحد أهم معاقل نفوذه وناخبيه في الشمال شيئا يذكر من المشاريع التي ظلت حبرا على ورق ووعدا انتخابيا غير محقق ولا يملك الحريريون واقعة واحدة عن تعطيل المعارضين والمنافسين لأي مشروع إنمائي جدي في طرابلس وعكار والضنية حيث يعشش الحرمان والفقر والإهمال وهي مناطق يصفها الحريريون بالخزان الشعبي لتيارهم.
ارتباط النهج الحريري الحصري بالمرجعية السعودية والغربية كان دائما على حساب لبنان والمصالح اللبنانية وخصوصا في زمن المخاض الكبير الذي يشهده العالم والمنطقة لأنه يضيع فرصة الاستفادة من تعدد الأقطاب ومن تطوير خيارات استقلالية لبنانية في العلاقات الاقتصادية وفي التحالفات السياسية وهو امر يناقض علاقة حزب الله بإيران التي ثبت غير مرة انها لا تلغي انفتاح قيادة الحزب على أي فرصة لخدمة المصالح اللبنانية والأدلة على ذلك موقفها غير المعترض على تزويد الجيش اللبناني بالسلاح الأميركي والفرنسي بينما يتمترس المستقبل في وجه الهبتين الروسية والإيرانية المفتوحتين على التطوير والتوسع لاعتبارات ارتباطه بالسعودية والغرب وبذرائع واهية أسقطتها التجربة في العراق.