أردوغان ينتقم من محمد علي باشا وأوغلو يواصل الردّ على هنتنغتون
ناصرقنديل
– تقمّص شخصية السلاطين بالنسبة إلى رجب أردوغان، أمر لا ينظر إليه مريدوه كتهمة أو كسبب لإهانة، فلا أردوغان ولا فيلسوف السلطنة أحمد داود أوغلو ينكران الحلم العثماني، الذي كتب له أوغلو نصوصاً تحت عنوان «العثمانية الجديدة»، وتحدّث أردوغان عن اعتباره نهضة المسلمين العصرية، ولذلك فنوستالجيا السلطنة، والحنين إلى الأمجاد، يشكلان مصدراً للشبه بين شخصيتي أردوغان والرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، الذي يتصرّف وفي عقله صورة أمجاد المستعمر الفرنسي، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالبلاد التي تعرّض فيها هذا المستعمر للإذلال كحال سورية والجزائر، وربما هذا أحد أسباب الكيمياء المشتركة التي تجمع الرجلين، والتي جعلت الباحث الأميركي ستيفن شليزنجر يجمعهما بوصف واحد هو الإصابة بمرضي التقمّص الخيالي وعقدة جنون العظمة.
– يستحضر أردوغان في كلّ لحظات الخصومة السياسية التي تفرضها روزنامة السلطنة الافتراضية، رموزاً من ذاكرة السلطنة، ففي ذروة الأزمة الأوكرانية التي يفترض أنها تدور بين أوروبا الغربية وروسيا سياسياً، وتقف أميركا فيها على الضفة الأوروبية تحرّكها وتشجعها للمزيد من التورّط بداعي المصالح الحيوية الموهومة، وفيما العنوان الديموغرافي يدور على الفالق الأرثوذكسي الكاثوليكي الذي يهدّد بتقسيم دول أوروبية عدة وأخذها إلى الحرب الأهلية، فجأة حضر أردوغان كشريك غريب في الحرب، لكنه استحضر شبه جزيرة القرم كرمز تاريخي يرتبط بحرب القرم التي شنّها العثمانيون بالتحالف مع فرنسا وبريطانيا على روسيا القيصرية، وفي خطابه لغة الثأر لهزيمة الأجداد، يوم وصل الأسطول الروسي إلى البحر المتوسط وسيطر على المضائق في البوسفور والدردنيل، ولم يتركهما عائداً إلى البحر الأسود إلا في اتفاقية باريس، ومعلوم أنّ الحرب كانت نهايتها في مؤتمر باريس عام 1856 وتضمّنت حماية حقوق الأقليات الدينية في السلطنة وحرية الملاحة الروسية في الدانوب نحو أوروبا، وصولاً إلى حق الأسطول الروسي بالعبور الحرّ في البحر الأسود، وتكريس تبعية شبه جزيرة القرم لروسيا وميناء سيفاستوبول مقراً للأسطول الروسي، ويبدو أنّ أردوغان الذي أراد الانتقام لجده السلطان عبد المجيد، صدّق أنّ هولاند المتقمّص شخصية نابليون هو نابليون بونابرت، فوجده نابليون الثالث الذي هزمه القيصر ألكسندر الثاني.
– لم ينتبه أردوغان إلى أنّ تفاهم مينسك حول أوكرانيا يعني انسحاب شريكه الفرنسي من الحرب ضدّ روسيا، كما لم ينتبه إلى أنّ صمود سلطنة أجداده كان بفضل تضحيات الجيش المصري الذي قاده محمد علي باشا على رغم كلّ ما فعله العثمانيون معه وإصرارهم على التنكيل به، والسعي لإخضاعه، بالتواطؤ مع الأجنبي، الفرنسي مرة والبريطاني مرة أخرى، وأنّ تاريخ العثمانيين بيافطة إسلامية، أيّ بهوية شرقية لم يمنع تحوّل السلاطين إلى شركاء لمطامع الغرب الاستعمارية بحق العرب، كما تقول حروب العثمانيين مع محمد علي باشا ونجله إبراهيم باشا وما عُرف بحروب بلاد الشام.
– في حروب بلاد الشام أذلّت جيوش محمد علي وإبراهيم باشا الجيوش العثمانية، وانتصرت عليها في حلب بعد نصري طرطوس وحمص ووصولاً إلى أضنة التي لم تغادرها الجيوش العربية، التي شارك فيها عشرات آلاف الشباب من سورية، إلا وفقاً لاتفاقية كوتاهية، التي رسمت أول خط حدودي عصري بين سورية وتركيا، قبل اتفاقيات سيبرز وتقسيمات سايكس ـ بيكو، وأردوغان المسكون بهوية أجداده يعيد حرب بلاد الشام وفي عقله الباطن محمد علي باشا، إخضاع مصر، بعد التحقق من الفشل بإخضاع سورية، فالتدخل المباشر للنخبة العسكرية التركية المقاتلة، يهدف إلى إبقاء المخلب العثماني في الأراضي العربية، تهديداً لمفهوم الأمن القومي، كما هدفت المساعي المستمرّة لاستخدام تنظيم «الإخوان المسلمين»، والضغط لإشراكهم في العملية السياسية في كلّ من ليبيا واليمن، والتجاوب الغبي لدول مجلس التعاون الخليجي مع الطلبين، وللغرض ذاته، بقاء المخلب العثماني الحاقد مغروزاً في الجسد العربي، عملية «داعش» في ليبيا واستهداف المصريين الأقباط بخلفية عنصرية تنتمي إلى أحقاد ما قبل قرنين.
– شخصية السلطان المتقمّص، يديرها أحمد داوود أوغلو بحسابات الاستراتيجيات العصرية، لحساب مشروع تناظري مع الدور «الإسرائيلي»، فأوغلو رمى خلف ظهره كلّ ما كتبه عن نظريات العداوات صفر مع الجوار كشرط للعب دور محوري في المنطقة لبلاده، واشترى العداء مع سورية والعراق ومصر، والودّ مع «إسرائيل» وقطر فقط. الحالتان الطارئتان على التاريخ، بمعايير الجغرافيا السياسية التي يتباهى أوغلو بأنه استاذ فيها، فلم يعد من كلّ كتاباته ما ينطبق على اللحظة الراهنة، إلا ردوده الدفاعية عن دور تركيا المحوري بالافتراض رغماً عن أنف التاريخ، في سجال مع المؤرّخ الأميركي صموئيل هنتنغتون، فردّ على توصيف تركيا في كتاب «صدام الحضارات» بدولة الأطراف بقوله إنها دولة مركز بوقوعها في وسط العالم القديم، أوروبا وآسيا وأفريقيا، من دون أن يكلف نفسه عناء التفكير والجواب، حول كيف تكون دولة مركز، الدولة التي تسورها العداوات مع المدى الآسيوي الذي تمثله حدودها البرية مع سورية والعراق وإيران، والعداوات مع مصر الدولة المحورية بين مسلمي أفريقيا التي تقابل تركيا على الساحل المتوسطي، والدولة الأوروبية الأقرب والتي تشكل الممرّ إلى أوروبا، اليونان، والأبعد منها لكن الأهمّ التي تمثلها روسيا بما تشكله من شريك طبيعي بمفهوم الأمن القومي، سواء للتشارك في مياه البحر الأسود، أو من نفوذ في حدائق خلفية مشتركة في بلاد آسيا الوسطى من كازاخستان إلى طاجكستان ووصولاً إلى أفغانستان.
– ينتهي أردوغان وحلمه، كما هو حال القادة الذين يفكرون بأحقادهم بدلاً من عقولهم، يقول بسمارك القائد الألماني العسكري، الذي انتهت على يديه حروب القرم بتفاهمه مع روسيا، الحقد أسوأ موجّه في السياسة.
(البناء)