المهم الأخلاق…
فاطمة طفيلي
يكاد الرعب الذي تثيره القيادة على طرقات لبنان يتخطى كل المقاييس بفرادته واستعصائه على القوانين المعروفة قديمها وحديثها، حتى تلك المتخصصة، التي تتعاطى مع الموضوع بلغة المنطق والمقاربات العلمية المقرونة بخبرات وتجارب عالمية بعدما دخل لبنان مرحلة التخصص في السلامة المرورية كعلم قائم بذاته يدرّس في المعاهد والجامعات، وجامعة القديس يوسف كانت الرائدة في لبنان والعالم العربي في هذا المجال، أمين سر الجمعية الشبابية للتوعية الاجتماعية اليازا أول خريجيها في اختصاص السلامة المرورية الممول من الاتحاد الاوروبي وبالشراكة مع شركة رينو العالمية، يليه آخرون بينهم عدد من ضباط قوى الامن الداخلي الفاعلين في الشأن المروري.
الكلام على خطر القيادة لم يعد محصورا بالاختصاص أو القانون، الذي يستحيل تطبيقه بطريقة فاعلة بمعزل عن القرار السياسي أولا، وبعيدا عن القرارات الخاصة ومسؤولية كل منا، ممن يجلس خلف مقود. فبدون تعاون المواطن المعني الأول بسلامته، يستحيل تطبيق أبسط القوانين، فكيف بقانون هو على تماس مباشر بسلامتنا وحياتنا؟، ودون تطبيقه الكثير من العوائق والعقبات، وفي طليعتها ظروف البلد السياسية والأمنية والاقتصادية والمعيشية، وما تحفل به الملفات المطروحة من إشكاليات، ليس آخرها الفساد والتنّفع والمتاجرة، مقابل أولويات دونها ضعف الامكانات وشح الموازنات في بلد صغير يناضل للصمود في محيط ملتهب وفي مواجهة أخطار الإرهاب التكفيري والعدوان الإسرائيلي المتربص بلبنان والمنطقة. وكل ذلك جزء لا يتجزأ من مشكلة المرو في لبنان.
بانتظار جلاء الأمور وتوفر الامكانات والاستعدادات لتطبيق قانون السير بحذافيره، يبقى الرهان الأساس على وعي المواطن وإدراكه لمسؤولياته الجسيمة، وعنوانها الحرص على حياته، والظن بهدرها هباء على الطرقات، وهنا بيت القصيد، ولا سيما أن خطر المرور لا ينحصر بمنطقة أو انتماء أو فئة عمرية، ولا يتمثل بآلية أو وسيلة بذاتها، هو خطر عام يشمل المناطق اللبنانية كافة، والأمر سيان أيا كانت واسطة النقل، سيارة عادية أو شاحنة أو حتى دراجة نارية، فالكل واحد عندما يجلس أحدنا خلف المقود، والفارق في ذلك نسبي بين جنس خشن وآخر ناعم، بالرغم من انحياز بعضهم لصالح المرأة لجهة الانتباه والحرص على مراعاة معايير السلامة المرورية والالتزام بقانون السير، فيما يرى آخرون في قيادة النساء عبئا مضافا يضاعف خطر الحوادث، ويساهم في الإرباكات والاختناقات المرورية.
ضحايا حوادث السير في لبنان قارب عددهم أو تخطى الـ 700 قتيل سنويا، والأمر تقريبي نظرا لغياب الإحصاءات الدقيقة، قد يرتفع أكثر، فيما لو توفرت الإحصاءات العلمية، التي تتابع الحوادث بالرصد والتحقيق أثناء وبعد حصولها، لكنه الرقم الوسطي للتقديرات الصادرة عن أكثر من جهة، من قوى الأمن الداخلي، إلى الجهات العاملة في الإسعاف من صليب أحمر ودفاع مدني وهيئات خاصة، بالإضافة إلى تقديرات اليازا وغيرها من الجمعيات المعنية. فيما تخطت أعداد الجرحى والمصابين الاثني عشر الف سنويا، وبينهم الكثير من المعوقين الأحياء – الأموات، الذين انقلبت حيواتهم رأسا على عقب بعد الحوادث، ناهيك عن الأضرار المادية التي تقدر بمليارات الدولارات من خسائر وأكلاف طبابة واستشفاء، اللبنانيون أولى باستثمارها في مجالات تنموية عدة تدعم صمودهم وتعزز من مستوياتهم المعشية، وتنهض ببلدهم واقتصاده، أليس الأمر واقعيا وقابلا للتحقيق؟ ولماذا تجرفنا الغوغاء وتسلب منا العقول وتجعلنا مستلبين لآلات باتت أشبه بتوابيت متحركة على الطرقات، تخطف شبابا في مقتبل العمر، وتخلف المآسي والأحزان في مئات البيوت اللبنانية كل سنة؟.
ألم تعد تحرّك ضمائرنا حوادث السير المأساوية، التي تملأ قصصها وسائل الإعلام بعدما تخطت نسبة ضحاياها أعداد ضحايا التفجيرات والأحداث الأمنية، وهل يحتاج كل منا إلى خوض التجربة المؤامة ليعتبر؟.
أي قانون ننتظر للتحلي بالمسؤولية وأولها أخلاقي، فالقيادة ذوق وأخلاق، والعبرة في التنفيذ وليس في استعراض النظريات، وجميعنا فصحاء خبراء بارعون في تقاذف المسؤوليات وادعاء البراءة مما يجري وإلقاء اللوم على الدولة والمسؤولين والقانون والطرقات وشرطة السير، والسائقين المتهورين وكلنا كذلك، وأولئك عديمي الخبرة، ومن قال أننا الأقدر والأكثر خبرة، ومن أعطانا صكوك البراءة من الأخطاء وكلنا بشر خطاؤون؟.
بالتأكيد لن يمنع تطبيق قانون السير الجديد الحوادث نهائيا، وهو ما لم تقدر عليه بعد أرقى دول العالم، ولكن بالإمكان الحد من أعداد الضحايا بشيء من الالتزام والمسؤولية، ودون ذلك مزيد من الخسائر والأرواح تذهب هدرا في مهب الاستهتار والأنانية والادعاء الأجوف.
أي قانون في العالم يستطيع تخصيص شرطي لكن مواطن، وفيما لو تأمن ذلك بحده الأدنى مع مزيد من العقوبات والغرامات الرادعة للمخالفات، أي شرطي يستطيع إلزام السائق بوضع حزام الأمان قبل الانطلاق إذا لم يقرر ذلك بنفسه؟. وكيف يمكن وقف التحايل على القانون بالانشغال بمغافلة الشرطي، للتمكن من استعمال الهاتف ردا وكتابة رسائل نصية، بدل التركيز على الطريق وما يمكن أن تحفل به من مفاجآت، أو التهرّب من الرادار بإخفاء رقم السيارة أو تغييره لتجاوز السرعة المحددة؟. أي قانون سيجبرنا على حماية أطفالنا ووضعهم في كراسي الأمان الخاصة بهم بدلا من وضعهم في أحضاننا كوسائد حماية تقينا الصدمات خلال الحوادث، أو تركهم يتمتعون بالرحلات ورؤوسهم وأطرافهم خارجة من فتحات السقوف أو النوافذ؟. من الذي سيمنعنا من استخدام الدراجة، التي بالكاد تتسع لشخصين كوسيلة نقل عائلية بمعزل عن أي حماية، وإذا فعل الشرطي، هل يمكن أن نضمن عدم تعرضنا للموت صدما قبل وصوله لمنعنا من ذلك؟.
مئات الأسئلة يمكننا طرحها في هذا المجال، ومن ضمنها التذاكي في استخدام إشارات الآلية الخاصة أثناء القيادة لتنبيه الآخرين، وقد أصبحت القيادة في لبنان مثالا للتنّدر بالحديث عن الاساليب المبتكرة، فالسائق يعطي الإشارة يسارا وينعطف باتجاه اليمين، يخرج من المنعطف وعيناه بالاتجاه المعاكس لوجهة السير، يسير مع ألوان الإشارات كافة لا فرق بين أحمر، أصفر وأخضر، فالأخضر يعني السير بأمان، والأحمر يتجاوزه لأنه في وسط الطريق، والأصفر مسموح تجاوزه لأنه فرصة للاستعداد، وتبقى العاقبة للملتزمين بالقانون وبمعايير السلامة. اللبناني يعشق السرعة، وخطورة السيارة لديه تكاد تكون مزحة أمام مغامرة السباقات المحببة بشاحنات النقل، يناور يتجاوز، ويرجع الى الوراء إذا اقتضى الأمر دون حساب للسيارات المحيطة، يصدمها أو حتى يدهسها من غير أن يكلّف نفسه عناء النظر إلى نتائج فعلته… هو جاهز دائما لملء فراغات الطرق، والمساهمة بالاختناقات المرورية، شرط ألا يتنازل حتى لأصحاب الحق، ومن ثم يغضب ويطلق بوق سيارته مع رشقات من الصراخ والشتائم، مع كم مرعب من الشرر المتطاير من عينيه.
مشكلة المرور سهلة بمقدار صعوبتها، تسهل حين نصبح شركاء في الحل، كل من موقعه ووفق إمكاناته، يكفي أن نتحلى بالمسؤولية عن حياتنا، وليكن كل منا شرطيا على نفسه يحميها من الخطأ والمغامرة، وفي ذلك حماية للآخرين وحرص على أرواحهم وتسهيل لتنفيذ القانون بأقل الأكلاف الممكنة.
كلنا شركاء في الحل كما في المشكلة، ولن تكون شراكتنا فاعلة ما لم نعترف بمسؤولياتنا مما يجري ومن هذا العدد الهائل من الحوادث القاتلة، وما لم نتحل بالذوق والاخلاق والسلوك المرن في القيادة، سنتحول جميعا إلى مشاريع أرقام تضاف سجل التقديرات السنوية لأعداد ضحايا المرور، ومن منا لم تؤلمه خسارة أب او أم، شقيق أو شقيقة، قريب أو صديق أو جار، فمتى نفعل؟!!!!!.