استقالة فيدان: دسائس في البلاط العثماني! محمد نور الدين
ليس حاقان فيدان مجرد اسم عادي في تركيا، وربما في المنطقة. فمنذ أن عين هذا الشاب، المولود في العام 1968، رئيساً للاستخبارات التركية في 25 أيار العام 2010 والرأي العام التركي ينظر إليه، والمسؤولون يتعاطون معه، على انه «سوبر موظف».
كثيرون سبقوه إلى هذا المنصب، لكن قلة تركت أثراً، وبالكاد يمكن تذكر أسمائهم.
يمتلك الرجل، لا شك، مواصفات مهنية وأكاديمية وحماسة لعمله، خوّلته أن ينجح في موقعه. لكنها لم تكن هي الوحيدة التي أعطته شهرة. إذ إن تبوُّءهُ هذا المنصب تزامن مع انفجار ما يسمى بـ«الربيع العربي»، وما واكبه من مشاريع وتطلعات ومغامرات لـ«حزب العدالة والتنمية» بقيادة رجب طيب اردوغان، بهدف إعادة تشكيل المنطقة، كما قال وزير الخارجية احمد داود اوغلو، في ربيع العام 2012، وفقا لما تريده تركيا وبقيادتها.
ولم يكن ذلك التصور، كما ترجم على أرض الواقع سواء في سوريا أو العراق أو مصر أو تونس أو غيرها من البلدان التي حدثت فيها اضطرابات، أو تلك التي لم تحدث فيها (المغرب والأردن والإمارات مثلا)، سوى احتضان حركات المعارضة على مختلف تلاوينها «المعتدلة» أو المتطرفة، المسلحة أو المدنية، لإطاحة الأنظمة القائمة، وإحلال أنظمة بديلة تكون السيطرة فيها حصرا للإسلام السياسي «الإخواني»، مع التبعية الكاملة للباب العالي الجديد في أنقرة.
ومثل هذه المشاريع كانت تتطلب دوراً فاعلاً وواسعاً، وعلى مدار الساعة، لجهاز الاستخبارات التركي، بطريقة تنسجم مع هذه التطلعات، لذا كان تعيين فيدان بعد أشهر قليلة على بدء «الربيع العربي»، لكي يمكن مواكبة المشروع التركي في المنطقة. وبالتالي كان مجيء فيدان لخدمة المشروع السياسي لـ «حزب العدالة والتنمية» ولأردوغان أكثر منه لخدمة المصالح الوطنية التركية. وهذا التمييز كان ضرورياً، إذ إن تركيا، التي كانت في ذروة عصرها الذهبي مع المنطقة عشية «الربيع العربي»، باتت اليوم في ذروة عزلتها وانحدارها، رغم بعض التحركات و «الحركات» التي يقوم بها مسؤولو «العدالة والتنمية» تجاه هذا البلد أو ذاك.
كان رئيس الحكومة الحالي احمد داود اوغلو يقول، عندما كان وزيرا للخارجية، إن «الاستخبارات التركية تعرف كل شاردة وواردة في سوريا، مدينة مدينة، وقرية قرية، وشارعا شارعا، واتنية اتنية ومذهبا مذهبا». إذ بذلت الاستخبارات التركية في عهد فيدان جهداً هائلاً من أجل توطئة الطريق أمام الأهداف السياسية لأردوغان في سوريا والعراق ومصر. ولقد أدى فيدان دوره كموظف ماهر، وفي الوقت ذاته كموظف مخلص لأردوغان يقوم بما يتوجب عليه. لكن المعطيات التي كان يعرضها لم توظف بشكل صحيح أمام القيادة السياسية، التي أخطأت في التقدير السياسي والعسكري فذهبت جهود فيدان هباء.
فيدان هو رجل المهمات الصعبة في المنطقة، وفي الداخل التركي. يرتبط اسمه بالكثير من الملفات، ومنها ملف مخطوفي أعزاز من اللبنانيين، غير أن اسمه كان أكثر ارتباطا بمسار حل المشكلة الكردية في تركيا، حيث خاض مفاوضات سرية أولاً، ومن ثم علنية مع زعيم «حزب العمال الكردستاني» المعتقل في تركيا عبد الله أوجلان. وهذا ما دفع بالمدعي العام القاضي صدر الدين صاري قايا، في 7 شباط العام 2012، إلى استدعاء فيدان على خلفية الاتصال بتنظيم مصنف إرهابياً في تركيا. لكنه لم يذهب للتحقيق، وسرعان ما استصدر اردوغان من البرلمان تعديلاً قانونياً يمنع التحقيق مع رئيس الاستخبارات من دون اخذ موافقة رئيس الحكومة.
وجاءت أحداث جيزي ـــ تقسيم، في حزيران العام 2013، ومن ثم انفجار فضيحة الفساد، في 17 كانون الأول من العام نفسه، لترمي في وجه اردوغان كرئيس لـ «حزب العدالة والتنمية» والحكومة اكبر تحديين واجهاه منذ وصوله إلى السلطة في العام 2002.
معركة اردوغان مع جماعة فتح الله غولين، التي اتهمها بالوقوف خلف الحدثين، كانت على صلة وثيقة بعالم الاستخبارات، وما رافق فضيحة الفساد من تنصت وتجسس ومكائد داخل أجهزة الدولة، كان للاستخبارات دور رئيسي في مواجهتها والتصدي لها، بحيث أن فيدان كان احد أهم دروع صد الهجمات عن اردوغان، بل الانتقال إلى تفكيك ما سمي بـ«الكيان الموازي»، وهو الاسم الذي اطلقه اردوغان على الموظفين الذين يأتمرون، كما أشيع، بأوامر غولين، والمنتشرين في كل أجهزة الدولة.
هذا الـ «حاقان فيدان» نفسه بادر إلى الاستقالة في السابع من شباط الحالي، من موقعه كرئيس للاستخبارات، من أجل الترشح للانتخابات النيابية التي ستُجرى في السابع من حزيران المقبل، حيث يتوجب على الموظفين الذين يريدون الترشح للنيابة الاستقالة قبل أربعة أشهر، أي قبل العاشر من شباط.
كلام كثير كتب، ونقاشات كثيرة جرت بين مسؤولي «العدالة والتنمية»، لا سيما بين رئيسي الجمهورية والحكومة، لمناقشة مسألة ترشح فيدان من عدم ترشحه. فتركيا تواجه تحديات كبيرة ومخاطر في ظل استمرار الاضطراب السياسي والعسكري في المنطقة، وهي في الأساس جزء رئيسي من تحريكه. وبقاء فيدان في موقعه أكثر من ضرورة، والوقت ليس وقت مغامرات العمل السياسي المباشر. وتركيا في خضم الجهود لحل المشكلة الكردية، وفيدان هو الذي يقودها، وأردوغان ــ داود اوغلو أمام تحديات «الكيان الموازي» وليس سوى فيدان يفككه ويبعد الخطر عن رؤسائه.
لكن المفاجأة، المتوقعة رغم ذلك، حدثت، وتقدم فيدان باستقالته ليترشح عن «العدالة والتنمية» إلى الانتخابات النيابية، رغم انه ليس عضواً في الحزب.
غير أن المفاجأة الأكبر كانت في موقف اردوغان من الاستقالة. فارتباط فيدان بأردوغان كان يشير إلى أن رئيس الاستخبارات لا يمكن أن يستقيل، ويدخل المعترك السياسي من دون موافقة اردوغان. غير أن ما صرح به الرئيس التركي، وهو في طريقه إلى المكسيك وكولومبيا وكوبا، كان المفاجأة التي طغت على حدث الاستقالة. وقال اردوغان انه لا ينظر بإيجابية إلى الاستقالة، مضيفا انه أبلغ داود اوغلو برأيه هذا مرات عدة. لكن التقدير في النهاية هو لرئيس الحكومة كرئيس لـ «حزب العدالة والتنمية» وكمسؤول عن فيدان. وقال اردوغان انه ربما هناك وعود قطعت لفيدان، معتبرا أن رئاسة الاستخبارات ليست مؤسسة عادية، وفيدان كان علبة أسراره.
يرى البعض أن القرار النهائي لاستقالة فيدان جاء من رئيس الحكومة، الذي هو نفسه اقترح على اردوغان تعيين فيدان رئيساً للاستخبارات، نتيجة معرفته وعلاقاته المهنية مع فيدان الذي كان ممثلاً لتركيا في العديد من المؤسسات الدولية. وبالتالي فإن داود اوغلو هو الأكثر تأثيرا على فيدان من اردوغان.
وإذا كان داود اوغلو فعلاً قد تصرف خلافاً لإرادة اردوغان، فهذا مؤشر على وجود مناخ مغاير للرئيس داخل «العدالة والتنمية»، أو على الأقل على مستوى داود اوغلو شخصيا. علما أن المعارضة ترى في إبراز هذا الخلاف بين داود اوغلو واردوغان على انه مجرد مسرحية لتعويم صورة داود اوغلو التي انسحقت تحت طغيان رئيس الجمهورية، وبات من الضروري إعادة ترميمها عشية الانتخابات النيابية.
غير أن الحديث عن مأزق يواجهه «العدالة والتنمية» ربما كان في أساس استقالة فيدان، والذهاب للعمل السياسي المباشر، إذ يشعر داود اوغلو أن الحزب سيواجه، بعد الانتخابات النيابية المقبلة، فراغاً مع خروج رموزه المؤثرة وذات الثقل التاريخي. لأن أكثر من 70 نائبا لن يترشحوا للانتخابات، كون النظام الداخلي للحزب يمنع أي نائب من البقاء في موقعه ثلاث ولايات متعاقبة. ومن أبرز ضحايا هذا الإجراء كان نائب رئيس الحكومة الحالي وأحد أبرز رموز الحزب التاريخية بولنت ارينتش.
ويكتمل هذا الفراغ مع الانقلاب الذي كان نفّذه اردوغان، بالتنسيق مع داود اوغلو، باستبعاد رئيس الجمهورية السابق عبدالله غول من أن يكون له أي دور قيادي، أو عادي، داخل «حزب العدالة والتنمية»، بعدما انتهت ولايته في 28 آب الماضي، رغم أن غول كان الذراع اليمنى لأردوغان لكي يتمكن من السلطة في كل مواقعها ومختلف مراحلها، بل يمكن القول إنه لولا غول لما أمكن لأردوغان أن يصل إلى ما وصل إليه. ومع ذلك غدر به ذات ليلة صيف. وهنا يذهب البعض إلى اعتبار استقالة فيدان «مؤامرة» من تدبير عبدالله غول نفسه، لإضعاف خطوط الدفاع عن اردوغان بعد الانقلاب الذي دبره ضد غول.
كذلك خسر «العدالة والتنمية» شريكه الإسلامي الرئيسي، أي فتح الله غولين بعد الاشتباك السياسي والأمني معه. وفي ظل الفشل الذريع في الخارج، والعجز عن حل المشكلات الداخلية، فإن داود اوغلو ينظر إلى الحزب فيراه خاليا من الأسماء الوازنة التي يمكن أن تساعده، وتحمل معه الحمل الثقيل الذي أورثه إياه اردوغان ومعاركه مع رفاق دربه وحلفائه وشركائه فضلا عن المعارضة. ويرى داود اوغلو أن فيدان يمكن أن يملأ جزءا كبيرا من الخواء الذي يعاني منه الحزب، من خلال ترشيحه ليكون «سوبر نائب»، ومن ثم تعيينه «سوبر وزير» في وزارة الخارجية أو الداخلية، بعدما كان «سوبر موظف». وربما في لحظة لاحقة يمكن أن يتولى رئاسة الحكومة في حال حدوث أي طارئ سياسي أو غير سياسي لداود اوغلو.
لكن تذهب بعض التحليلات إلى ربط استقالة فيدان باحتمالات انفجار المشكلة الكردية من جديد، وعودتها إلى لغة الدم، وخشية فيدان من ان يُدَفِّعوه فاتورة الفشل، حيث انه هو الذي يقود المفاوضات مع أوجلان، وبالتالي هو يريد حصانة نيابية تحول دون محاكمته.
لكن في كل هذا المشهد السياسي، لن يعني اردوغان سوى أن ينتصر «حزب العدالة والتنمية» في الانتخابات النيابية المقبلة، وبنسبة عالية من المقاعد، لكي ينتقل إلى تعديل النظام من برلماني إلى رئاسي، فلا تبقى أهمية لا لداود اوغلو ولا لفيدان، حيث سيتحولان إلى مجرد موظفين عند رئيس الجمهورية. ولم يخفِ اردوغان هذا الهدف بالقول إن الانتخابات النيابية المقبلة هي انتخابات النظام الرئاسي، والناخب عندما يصوت فهو سيصوت للنظام الرئاسي قبولاً أو معارضة. أي أن كل شيء يجب أن يتحرك وفقا لمحور واحد، هو رجب طيب اردوغان.
مع ذلك لننتظر ماذا وراء أكمة فيدان، وقبلها ماذا وراء أكمة اعتراض اردوغان، وهل هي مؤشر على شيء يخشى هو منه؟ أم انها كلها مجرد لعبة لإطالة أمد حكم «حزب العدالة والتنمية» وتحكم أردوغان بكل شيء؟ أم انها استعادة لتقاليد الدسائس والمكائد التي اشتهر بها البلاط العثماني؟
(السفير)