في استخدام النص معين الطاهر
أعادت جريمة حرق الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، البشعة، الجدل حول استخدام النص، أو التراث، في تبرير أفعال البشر والجماعات الراهنة، ومنحها نوعا من القداسة والحصانة، باعتبارها تنفيذا لتعليمات شرعية، لا يجوز نقاشها أو إبداء الرأي فيها. ذلك أن داعش قد استند إلى نص قديم للإمام ابن تيمية، لا يتحدث فيه عن الحرق أو أي شكل من أشكال العقوبة، وإنما يجيز “المثلة”، أي الرد بالمثل على ما يقوم به الأعداء، ولو كان منافياً للعقوبات والقيم السائدة. وبعض من عارض فعلة داعش المستهجنة من التيارات الإسلامية نهلوا من النبع نفسه، إذ استندوا إلى حديث (نص) منسوب للرسول الكريم، نهى فيه عن الحرق، عندما رأى قوماً يحرقون قرية للنمل، وقال “لا يعذب بالنار إلا رب النار”، معتبرين أن داعش ترك النبي إلى غيره، وأساؤوا تأويل كلامه .
قبل هذا التفسير، استند داعش، وقبله القاعدة وحركات التكفير والهجرة، إلى نصوص أخرى، تبرر حربها وإرهابها وقتل المسلمين، سواء تحت شعارات الردة والكفر والمجتمع الجاهلي، أو عبر فتاوي التترس التي تبيح قتل المسلمين الموجودين في مجتمعات (كافرة)، بدعوى أن العدو يتمترس بهم، ويتخذهم درعاً كما كان يحدث في العصور القديمة.
لا يكمن الإشكال الكبير، هنا، في النص أو التراث، وإنما في العقل البشري الراهن وأنماط التفكير السائدة. فقد اعتاد العقل العربي والإسلامي السائد إعادة توظيف النص والتراثي، ولي عنقه بما يخدم أهواءه الآنية، ودوافعه وأهدافه وأفكاره الراهنة، بهدف إضفاء القداسة على أفعال الأفراد والجماعات والنظم، بحيث يصبح نقد الفعل البشري الذي فسر وأوّل النص كما يشتهي، ويريد جرماً، والاعتراض على هذا التفسير، لمخالفته واقع الحال ومدارك العقل، نقدا للنص المقدس نفسه، ومخالفة للدين والشرع، واعتراضا على أحكامه.
لا يتعلق موضوعنا، هنا، بقداسة النص الإلهي، ولا بأهمية استلهام التراث مكوناً أساسياً في تاريخنا، بقدر ما يتعلق بتفسير النصوص، واستنباط الأحكام منها، وهو ما عرف، عبر التاريخ الإسلامي، باسم الفقه الذي يهتم بصياغة تفسير للنص، ليعالج واقع الحال، وهو اجتهاد عرضة للخطأ والصواب، ولا يحمل، في طياته، أي معنى للعصمة والقداسة، بل يروى أن الإمام علي بن أبي طالب عندما أرسل ابن عباس لمحاججة الخوارج، قال له لا تحاججهم بالقرآن، فإنه
حمّال أوجه، إذ يبقى النص مقدساً ومتعالياً، أما تفسيراته وتطبيقاته فمن صنع العقل البشري وصياغته. على أن استغلال النص، وتجييره، لا يقتصران على الحركات الإسلامية، ولا على واقعنا المعاصر، فهو ممتد عبر التاريخ، منذ بدء النزاع على السلطة في عهد الصحابة، وتمسك الخوارج بالنص، أو بالأصح بتفسيرهم له، حين رفضوا التحكيم في موضوع الخلافة، وهو تفسير ممتد إلى يومنا هذا، في كل حركات التكفير والعزلة، واعتبار المجتمع جاهلياً مرتداً.
كما امتد ذلك إلى الأنظمة الاستبدادية، بحيث أصبح لكل نظام سياسي فقهاؤه وعلماؤه الذين يسبغون عليه أوصاف الشرعية الدينية، ويكفرون مناوئيه، بل ويبررون قتلهم ومطاردتهم. تماما كما فعل الانقلاب في مصر، حين استنهض المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية، للدفاع عنه وتبرير أفعاله. قبل ذلك، انتقى الرئيس أنور السادات نصا قرآنيا واحداً، لتبرير زيارته للكنيست الإسرائيلي، وتوقيعه معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، حين بدأ خطابه بالآية الكريمة “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها”، متناسيا عشرات النصوص التي تدعو إلى القتال، خصوصاً ضد الذين تصالح معهم، وقد وصفهم النص القرآني بأنهم الأشد عداوة.
وكما يسود فقه الدم عند داعش ومثيلاتها، فان فقه السلطان، أيضاً، يحتل مكانة كبرى عبر دعوته الدائمة إلى طاعة ولي الأمر، ورفض الخروج عليه، وتكفير الثورات والحراكات الشعبية، مستغلاً نصوصاً أخرى، عاملاً على تأويلها، بما يخدم السلطات الحاكمة.
وكان فقهاء المسلمين، مثل الغزالي والماوردي، قد حاولوا تأصيل نظريات للحكم في الإسلام، وتوصلوا عبر تأويل عقلي للنصوص المتاحة إلى وضع شروط لتغيير الحاكم الفاسد. وانصبت تفسيراتهم على إعطاء الأولوية للحفاظ على وحدة الأمة، وباصطلاح ذلك العصر (بيضتها) في مواجهة العدو الخارجي، وتجنب الفتن الداخلية التي تؤدي إلى الاقتتال الأهلي، وتقسيم الأوطان وإضعافها. لذلك، لم يرفضوا التغيير والثورة، لكنهم وضعوا شروطا قاسية لها، أهمها ضمان الانتصار والمحافظة على الأمة ووحدتها. وفضلوا إذا استحال ذلك بقاء الحاكم، ولو كان فاسداً وفاسقاً، على اعتبار أنها لو دامت لغيره ما وصلت إليه. من الواضح حجم التدبر والتفكير واستخدام العقل في تأويل تلك النصوص التي استحالت، في عصر فقه السلاطين المعاصرين، إلى طاعة غير مشروطة للحكام والقادة.
هي دعوة إلى استخدام العقل في مواجهة النص المقدس والتراث، وهي دعوة إلى تجريد الأفراد والجماعات والأنظمة من تفسير النصوص على هواهم، وتلوين أنفسهم بأشكال متعددة من العصمة والقداسة، والاعتراف بأن كل ما يقومون به جهد بشري يحتمل الخطأ، كما يحتمل الصواب، وبدون هذا العقل لن تتحقق المقاصد النبيلة، ولا القيم السامية التي نسعى وراءها، ولن يستقيم ميزان الحياة والشرع.