تهاوي أسعار النفط: الحلقة الخفية بين السوق والسياسة/ الحلقة الثالثة د. إبراهيم علوش
القرار السياسي بين سعر النفط وسعر الدولار
مجدداً يعود سعر مزيج نفط برنت للارتفاع، من 49 دولار للبرميل قبل أسبوعين، إلى أكثر من 56 دولار عند كتابة هذه السطور، بفعل المضاربة في الأسواق الآجلة، أي بفعل المراهنة على الاتجاهات المستقبلية لتقلبات السعر المنفصلة عن العرض والطلب المباشرين للنفط، بمعنى أن من يشتري العقد الآجل لا ينوي في الأعم الأغلب تسلم أو تسليم برميل النفط الذي اشتراه أو باعه، إذ يبيع العقد في البورصة قبل حلول موعد الوفاء به. وقد كانت سيطرة رأس المال المالي على رأس المال الحقيقي أو المادي، المتجسد في المنشآت الإنتاجية الحقيقية مثل المصانع والمزارع وغيرها، ما دفع الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز إلى الكتابة في العام 1936: “عندما يصبح التطور الرأسمالي لبلدٍ ما نتاجاً فرعياً لنشاطات كازينو، فمن المرجح أن تنفذ المهمة على نحوٍ رديء”. لكننا لا نتحدث هنا عن التطور الرأسمالي لبلد واحد، بل عن سعر النفط والطاقة، أي عن العلاقات الدولية والتوازنات الجيو-سياسية في الساحات الإقليمية.
رب قائلٍ أن رأس المال المالي الذي يتلاعب بسعر النفط وغيره في الأسواق الآجلة إنما يبيع ويشتري بدافع الربح، لا بدافع سياسي أو استراتيجي أو شخصي، وهي المقولة التي تلقَن لطلاب الاقتصاد والمالية منذ السنة الجامعية الأولى، غير أن ما قد يصح عند تناول المضارِب بالعقود الآجلة كفرد لا يمكن أن يصح عند تناوله كشريحة اجتماعية مدركة لذاتها ولمصالحها كما تتجسد في تنظيماتها ومؤتمراتها العديدة مثل منتدى دافوس مثلاً، ناهيك عن العلاقة العضوية بين تلك الشريحة والدولة العميقة في بلدان الـG-7. وإذا كان بعض النواب في الكونغرس الأمريكي قد طالبوا بالتحقيق في دور المضاربين في رفع أسعار النفط عندما كانت على ارتفاع، دون نتائج تذكر، فإن مجلات المال والأعمال الأمريكية تحفل اليوم بمطالبات تهكمية لأولئك النواب بأن يعتذروا ويقدموا الشكر للمضاربين الذين أسهموا مؤخراً بتخفيض سعر النفط، في أعداد مجلة “بيزنس ويك” مثلاً. والخلاف يبقى فحسب على ما إذا كان المضاربون يتحملون بعض أم كل المسؤولية عن انهيار سعر النفط الذي ربما انهار بسبب عوامل أخرى أيضاً، بالإضافة للمضاربة بالعقود الآجلة…
ليس الحديث هنا عن التذبذب قصير المدى في السعر، إذ ارتفعت اسعار النفط قليلاً في الأيام الأخيرة بسبب نشر بيانات تظهر انخفاض مشاريع حفر الآبار في الولايات المتحدة، مما يوحي بانخفاض العرض، وانخفضت بسبب بيانات أخرى من الصين تظهر أن مشتريات مدراء المصانع من المواد الخام والسلع الوسيطة قد انخفضت، مما يوحي بانخفاض الطلب الصيني على النفط. يدور الحديث في الواقع عن العوامل التي تسببت بالانهيار العظيم في سعر النفط، بمستوى 60 بالمئة، في خلال الأشهر الأخيرة. ولعل أحد هذه العوامل، التي لا يمكن لأحد أن يزعم أنها منفصلة تماماً عن القرار السياسي، هي قرار الاحتياطي الفدرالي، أي البنك المركزي الأمريكي، الشروع برفع أسعار الفائدة.
نظرياً، يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية لجعل العائد على الإيداعات بالدولار أكبر من العائد على الإيداعات بالعملات الأخرى، مما يسبب هجرة باتجاه الدولار الأمريكي، مما يزيد الطلب عليه، مما يؤدي لرفع سعره إزاء العملات الأخرى، مع بقاء العوامل الأخرى ثابتة، فما بالك إذا كان متوقعاً أن تقوم البنوك المركزية الأوروبية واليابانية بتخفيض سعر الفائدة لديها لمحاربة الركود الاقتصادي؟!!
لقد جاء ارتفاع الدولار بسبب انخفاض أسعار الفائدة في أوروبا واليابان أولاً مقارنة بأمريكا، ثم بسبب انخفاض العجز في الحساب الجاري الأمريكي بسبب انخفاض مشتريات النفط من الخارج. بعدها جاء الإعلان عن نية رفع أسعار الفائدة الأمريكية بذريعة انتهاء آثار الأزمة المالية الدولية عام 2008 ونشوء خطر التضخم، مع أن أرقام الفصل الرابع من العام 2014 اشارت إلى أن الاقتصاد الأمريكي لم ينمُ أكثر من 2،6 بالمئة، وهي نسبة نمو لا تعتبر مرتفعة، ولا تدعو للخوف من التضخم. وقد دفعت الأرقام الأخيرة الاحتياطي الفدرالي للتريث في رفع الفائدة في اجتماعه الأخير، لكن التوقع نفسه دفع للمضاربة على الدولار في الأسواق الآجلة، مما أسهم بارتفاع الدولار. فالبورصة تحركها المضاربة على التوقعات.
هذا ما حدث مؤخراً، حيث ارتفع الدولار من 1،39 مقابل اليورو في 6 أيار 2014 إلى 1،11 دولار مقابل اليورو في 25 كانون الثاني 2015، أي أننا بتنا نحتاج لكمية أقل من الدولارات لشراء الكمية نفسها من اليورو، فالرقم الأقل يدل على ازدياد القوة الشرائية للدولار. وقد عاد الدولار للانخفاض قليلاً بعد 25 كانون الثاني من العام الجاري، ليصل إلى 1،14 مقابل اليورو. كذلك انخفضت عدة عملات دولية مقابل الدولار، منها الدولار الكندي والين الياباني والجنيه الاسترليني، وكان الخاسر الأكبر في هذه العملية الروبل الروسي، والرابح الأكبر… الشيكل!
ما يهمنا هنا هو الرابط العضوي بين سعر النفط وسعر الدولار: فالنفط يسعّر بالدولار، والكثير من السلع الدولية الأخرى، وبالتالي يؤدي ازدياد القوة الشرائية للدولار إلى انخفاض سعر برميل النفط بالدولار، وليس بالضرورة إلى انخفاضه بالعملات الأخرى التي تضعف أمام الدولار، كاليورو مثلاً. بالمقابل، يؤدي انخفاض سعر الدولار، مع بقاء العوامل الأخرى ثابتة، إلى ارتفاع سعر برميل النفط بالدولار، وليس بالضرورة بالعملات الأخرى التي ترتفع مقابل الدولار. ولذلك ليس غريباً أن يعود الدولار الآن للانخفاض في الوقت الذي يعود فيه برميل النفط للارتفاع. فهل سيعود الدولار للانخفاض، والنفط للارتفاع، على المدى الطويل؟ ليس هذا موضوعنا هنا، بل إبراز العلاقة العكسية بين سعر النفط وسعر الدولار الذي يتحكم فيه الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، والأخير، كأعلى سلطة اقتصادية في الولايات المتحدة، لا يمكن أن يكون بعيداً عن الاعتبارات السياسية.