تهاوي أسعار النفط: الحلقة الخفية بين السوق والسياسة/ 3 أجزاء د. إبراهيم علوش
الحلقة الأولى: أسعار النفط بين السوق والسياسة
اختلف الجمع في تفسير انهيار أسعار النفط (مزيج برنت نموذجاً) من أكثر من 115 دولار في حزيران 2014 إلى أقل من 49 دولار للبرميل اليوم، أي حوالي 60 بالمئة خلال ستة أشهر، وهو ما فسره بعض المحللين بعوامل اقتصادية أساساً تستند للعرض والطلب مثل تطوير تقنيات إنتاج الصخر الزيتي في الولايات المتحدة مما ضخ أكثر من 4 ملايين برميل نفط إضافي يومياً للسوق الأمريكية، كذلك استعاد العراق مستوياته الإنتاجية القديمة عند حوالي 3 ملايين برميل يومياً، وقيل أنها أربعة ملايين، واستؤنف تصدير النفط عبر بعض الموانئ الليبية، وهذا كله يؤدي لازدياد العرض، وبالتالي لتخفيض السعر. من جهة أخرى، تباطأ النمو الاقتصادي في منطقة اليورو واليابان، وفي الصين مقارنة بمستوياته في السنوات السابقة، مما قلل الطلب على النفط وخفض السعر. وامتنعت أوبك عن تخفيض المعروض من النفط، مما أضعف التوقعات بعودة سعر البرميل للارتفاع في المستقبل القريب. وهناك من اعتبر انخفاض سعر النفط جزءاً من “دورة سعرية” طبيعية سببها ارتفاع المعروض النفطي بعد زيادة الإنتاج من الحقول والآبار غير المجدية سابقاً في محاولة للحاق بالطلب الذي أدى لارتفاع الأسعار، سوى أن تأخر العرض عن الطلب في النصف الأول من عام 2014 تبعه تأخر الطلب عن العرض في النصف الثاني من العام!
بالمقابل، هناك التأويل السياسي الذي يرى أن الآثار المدمرة لانخفاض أسعار النفط على اقتصاديات كل من روسيا وإيران وفنزويلا، وكلها دول تستهدفها الولايات المتحدة بالعقوبات بدرجة أو بأخرى، وتسعى لمحاربتها عبر أدواتها، لا يمكن أن يأتي صدفةً مرة واحدة كنتيجة لـ”دورة اقتصادية طبيعية”، إنما يأتي انخفاض أسعار النفط، حسب هذه الرؤية، نتيجة قرارٍ واعٍ من الإدارة الأمريكية وحلفائها لدفع اقتصاديات دول مثل روسيا وفنزويلا وإيران للإفلاس، وبالتالي لاحتواء نفوذها وفرض تنازلات سياسية جوهرية عليها.
يشار هنا أن العقوبات على إيران، التي تحرمها من عائدات صادراتها النفطية، والعقوبات الاوروبية المالية على شركات النفط والغاز الروسية، والعقوبات على روسيا عامة، يفترض أنها تقلل من الكميات المعروضة في السوق وترفع الأسعار، كذلك يفترض أن سوق النفط الحساسة للتوترات السياسية سوف تتأثر سلباً بسيطرة “داعش” على أقسام من شرق سورية وغرب العراق، وكذلك بالتوترات في أوكرانيا وليبيا، التي يفترض أنها أزالت 3 ملايين برميل من النفط يومياً من الأسواق العالمية حسب تقرير رسمي لـ”إدارة معلومات الطاقة” الأمريكي في 13 كانون ثاني 2015. عوضاً عن ذلك، رأينا أسعار النفط تنخفض، والسعودية تلقي بثقلها خلف إبقاء إنتاج أوبك على ما هو! كما أن الطلب على النفط والغاز لأغراض التدفئة يفترض أن يزداد في النصف الشمالي من الكرة الأرضية في فصل الشتاء؟ والاقتصاد الأمريكي، أكبر اقتصاد في العالم، في حالة تعافي، أفلا يدفع ذلك باتجاه التفسير السياسي المتعمد للظاهرة؟!
في المقلب الآخر، ما هي الحكمة من تورط الإدارة الأمريكية والسعودية بتخفيض أسعار النفط إذا كان ذلك سيؤدي إلى: 1) شطب منتجي النفط الأمريكيين، خاصة من الصخر الزيتي والرمل النفطي، الذين لا يستطيع معظمهم الاستمرار طويلاً إذا انخفض سعر النفط دون 60 دولار للبرميل أو حتى 70 دولاراً؟، و2) فقدان السعودية، المعتمدة بنسبة 90 بالمئة على تصدير النفط، لأكثر من نصف عائداتها اليومية من بيعه حتى الآن؟!
لكن محمد الصبان المستشار السابق لوزارة النفط السعودية يقول أن السعودية تستطيع ان تحتمل أربع سنوات من أسعار النفط المنخفضة بدون تخفيض الانفاق الحكومي، وثماني سنوات إذا تم تخفيض الإنفاق الحكومي، بسبب احيتاطياتها المالية الهائلة (موقع البي بي سي 19/1/2015). أضف إلى ذلك أن كلفة استخراج برميل النفط في السعودية تتراوح بين 5-8 دولارات، وهي وبقية النادي الخليجي سيستمرون بالربح، مع كل الكلف الاخرى للبرميل، ما دام سعره أكثر من 27 دولاراً. بيد أن اعتماد السعودية أساساً يبقى على احتياطياتها الضخمة من العملات الصعبة والذهب، والبالغة حوالي 800 مليار دولار، وهي ثالث أكبر احتياطيات نقدية سائلة في العالم، بعد احتياطيات الصين (4 آلاف مليار دولار) ثم اليابان (1260 مليار دولار)، تليها سويسرا بـ500 مليار.
أما الاقتصاد الأمريكي فمتنوع، ولا يقوم أوده على تصدير منتجات الطاقة، بل سيستفيد المواطن الأمريكي والصناعات الأمريكية من انخفاض أسعار الطاقة ومشتقاتها، وهو ما يعززه ارتفاع سعر الدولار إزاء العملات الأخرى، لأن النفط مسعّر بالدولار، مما يزيد القوة الشرائية ويرفع من مستوى المعيشة، أما الشركات الأمريكية الصغيرة والمستقلة المنخرطة في إنتاج النفط، فسوف تصبح بسبب انخفاض أسعار منتجاتها فريسة سهلة المنال للشركات النفطية الكبرى مثل أكزون وشيفرون وكونكو، وشركات الصخر الزيتي مثل أناداركو وأباتشي وتشيزابيك وغيرها، مما يزيد من تمركزها ويخلصها من المنتجين الصغار…
باختصار، بإمكان السعودية والولايات المتحدة أن تخوض مغامرة محسوبة لدفع روسيا وإيران وفنزويلا للإفلاس، إذا كان هذا هو المقصود، دون أن تتأثر كثيراً: السعودية بسبب احتياطياتها النقدية الضخمة، والولايات المتحدة بسبب تنوع اقتصادها، ولأنها أكبر مستهلك للنفط عالمياً، حيث يبلغ استهلاكها حوالي 19 مليون برميل يومياً، أي أن إنتاجها يظل أقل من استهلاكها حتى بعد الثورة التقنية في إنتاج الصخر الزيتي والرمل النفطي. النتيجة طبعاً أن الاحتياطي النقدي السعودي سوف يذوب، ولكن أليس من الطبيعي أن ترغب الولايات المتحدة وحلفاؤها بذلك؟! أليس التخلص من أي احتياطي استراتيجي عربي هدفاً استعمارياً وصهيونياً قديماً؟!!
… للحديث بقية، وسنتناول الأسبوع المقبل الحلقة الخفية بين السوق والسياسة التي تتيح لنا أن نفهم الاقتصاد السياسي والتخطيط الكامن خلف التلاعب بسعر النفط وغيره.