عندما يحكم اليونان معارضون للأطلسي وإسرائيل.. وحلفاء لروسيا وسيم ابراهيم
كل هؤلاء يمكن أن تشملهم قائمة المحتفلين مع غالبية الشعب اليوناني: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المناصرون للقضية الفلسطينية، المعادون لمشاريع الهيمنة الأميركية وتحالفاتها الأوروبية، المعارضون للحلول العسكرية ولحلف شمال الأطلسي، المهاجرون واللاجئون العالقون في اليونان، والعدّ يمكن أن يستمر طويلاً.
جميعهم يمكنهم التهليل لتسلم حزب «سيريزا» السلطة في اليونان، بعد فوزه التاريخي في الانتخابات. برنامج الحزب ولائحة مبادئه تضمّان ما يكفي لحشد مشاعر هذه القافلة. لكن الفارق بين حسابات الحملة الانتخابية وحسابات الحكم ليس الوحيد الذي يمنع تلبيتها. العائق الأهم هو وجود أولوية لا يعلو عليها أمر آخر، وهي التي جلبتهم عملياً إلى السلطة: معالجة الوضع الاقتصادي المتردّي لبلد يعيش أزمة بطالة خانقة، والتفرغ لمعارك شرسة مع برلين وبروكسل رفضاً للتقشف وشروط الدائنين الدوليين.
معارضة حلف «الناتو» كانت أبرز المواقف التي أسس عليها «سيريزا» فلسفته حول السياسة الخارجية. مَن يراجع قائمة مبادئه، التي أطلقها للتعريف به منذ سنتين، يجد على رأس أولوياته «فك الارتباط مع الناتو وإغلاق القواعد العسكرية الأجنبية على التراب اليوناني»، في إشارة إلى القاعدة البحرية الأميركية في جزيرة كريت.
تلا ذلك مباشرة على القائمة عنوان لا يقل أهمية هو «إنهاء التعاون العسكري مع إسرائيل». صحيح أنه لم يجر التركيز عليه لاحقاً، أو التفصيل فيه، لكن لا يمكن تخيّل أن هذا النسق لن يترك تأثيراً في المستقبل.
بالنسبة إلى الحلف الأطلسي، فاليونان عضو فيه منذ العام 1952، لكنها عضوية يمكن الاستغناء عنها برأي «سيريزا». دعا منظرو سياسته الخارجية إلى حل التوترات مع تركيا عبر «عملية ديبلوماسية لمصلحة الشعب والسلام في المنطقة»، ومساعدة قبرص، المنقسمة إلى يونانية وتركية، على إعادة التوحيد وفق ما أقرته الأمم المتحدة.
أما لماذا يتبنى «سيريزا» قضية الابتعاد عن «الناتو» كمبدأ، فهو سؤال يجيب عليه موقعه الرسمي على الانترنت: «سيريزا يناضل لإعادة تأسيس أوروبا بعيداً عن الانقسامات المصطنعة وتحالف الحرب الباردة مثل حلف الناتو».
لكن لهجة التحديث تراجعت لتضع الأمر في أفق استراتيجي. في ذروة انشغاله بحشد الدعم الشعبي للملف الاقتصادي قبل الانتخابات، أوضح أليكسيس تسيبراس، زعيم الحزب ورئيس الوزراء الجديد، أن الانسحاب من «الناتو» ليس أولوية ملحّة للحزب الآن، ومثله إغلاق القاعدة الأميركية. كان ذلك منتصف الشهر الحالي، عندما خصّص تسيبراس يوماً للرد على متابعيه على موقع «تويتر»، فقال حينها «لن نشارك في الناتو مع رأس محنيّ. لن ندعم التدخلات العسكرية، سندافع عن الشرعية الدولية».
أحد السياسيين الأوروبيين الذين لا يستسيغون صعود اليسار الأوروبي، قال لـ «السفير» إن موقف «سيريزا» من «الناتو» وتريّثه الحالي يؤكد «براغماتية اليسار الأوروبي الجديد». علق على ذلك بالقول «إنهم مختلفون عن اليسار التقليدي، سيفضلون الوصول إلى الحكم ومحاولة التغيير على خوض حروب الأيديولوجيا والشعارات».
لكن القضية التي لا يمكن تعليقها على مشجب «الاستراتيجية» هي الموقف من روسيا، مع استمرار الصراع الغربي معها في أوكرانيا. هنا كان موقف «سيريزا» واضحاً، واقترن بأفعال معروفة. نواب الحزب في البرلمان الأوروبي كانوا من بين القلة التي صوّتت ضد اتفاق الشراكة مع أوكرانيا، كما أنهم امتنعوا عن التصويت حول اتفاق مماثل مع جورجيا ومولدافيا.
بالطريقة ذاتها صوّتوا أيضاً ضد قرارات تدعو إلى تصعيد العقوبات، أو تدين التحركات الروسية. لا يأتي ذلك فقط بدافع لسواد عيون المبادئ السياسية، بل أيضاً لأن روسيا تعد شريكاً تجارياً رئيسياً لليونان. حجم التجارة بينهما بلغ سبعة مليارات يورو، كما أن السياح الروس كانوا رادفاً مهماً لأرباح قطاع وازن في اقتصاد اليونان.
لا يزال بمثابة الممسك للمعلقين الغربيين على «سيريزا» أن متحدثه للسياسة الخارجية، كوستاس إسيكوس، أشاد العام الماضي بما سمّاها «الهجمات المضادة المثيرة للإعجاب». كان يتحدث عن تحركات الانفصاليين الأوكرانيين المدعومين من روسيا، معتبراً تصعيد العقوبات على موسكو دليلاً على «شره الاستعمار الجديد» للاتحاد الاوروبي. وعلى هذا المنوال، تبنى زعيم «سيريزا» في السابق موقفاً داعماً للاستفتاءات على الاستقلال التي نظمها الانفصاليون، وكانت حينها محط انتقادات أوروبية شديدة.
نتيجة كل ذلك، ستكون الأنظار مركزة غداً، على وزير الخارجية اليوناني الجديد، أستاذ العلوم السياسية نيكوس كوتزياس. وزراء الخارجية الأوروبيون سيعقدون اجتماعاً طارئاً حول عودة التصعيد في أوكرانيا، وإدانة روسيا، وزيادة العقوبات أمر يجري التباحث حوله.
موقف اليونان سيكون مهماً جداً في الأشهر المقبلة. الأوروبيون يحتاجون إلى تجديد العقوبات على روسيا والانفصاليين الأوكرانيين، وهذا يلزمه الإجماع الذي يمكن أن تعطله أي دولة رافضة. فرنسا ليست متحمّسة جداً للمعاقبة، ومثلها النمسا، أما هنغاريا فمعارضة بصمت، لذا فموقف حكام أثينا الجدد سيكون مؤثراً.
القصة الأخرى التي لا يمكن لحكومة تسيبراس القفز عنها هي واقع الهجرة. اليونان من الدول التي تشهد تدفقاً للاجئين، والحكومات السابقة جعلتها مضرب مثل في سوء معاملتهم. العام الماضي وصل اليونان 44 ألف طالب لجوء، ومعدل قبولها لطلباتهم كان أقلّ، بأكثر من ضعفين، من المعدل الوسطي الأوروبي.
هنا وعد «سيريزا» بأنه سيُنهي هذا الواقع عبر إلغاء الممارسات التعسفية ضد اللاجئين، خصوصاً الإعادة القسرية والاحتجاز في مراكز تفتقد للخدمات اللائقة. كما تعهّد الحزب بالعمل على تغيير اتفاقية «دبلن» التي تفرض أن يقدموا اللجوء في أول بلد أوروبي يصلونه، واعداً بالعمل للحصول على وثائق سفر لآلاف اللاجئين العالقين على الأراضي اليونانية من دون أي أوراق رسمية.
وبالنسبة إلى المنطقة العربية، تعطي أدبيات «سيريزا» الأولوية لحل أزمات الجوار المتوسطي، ودائماً على القاعدة الأساسية التي يريدها جوهراً لسياسته الخارجية: «مؤيّدة للسلام، من دون التورط في الحروب والخطط العسكرية».
وعلى نطاق العالم، يؤكد الحزب المنتصر أنه يحتفظ «بعلاقات وثيقة» مع قوى اليسار العالمي. يخص بالذكر قوى اليسار في أميركا اللاتينية، لافتاً إلى أنها كانت مصدر إلهام له في سياق معاداة، ما يسمّيه: سياسات «الليبرالية الجديدة» في أوروبا، و «الامبريالية» الأميركية.
(السفير)