في أيّ سوق يُحدّد سعر النفط؟ د. إبراهيم علوش
الذين يعتبرون ارتفاع وانخفاض سعر النفط انعكاساً مباشراً لتقلبات العرض والطلب، بعيداً عن أي اعتبارات إستراتيجية أو جغرافية ـ سياسية، يتجاهلون في الواقع أن منحنيات العرض والطلب كانت تتحرك في اتجاهين متناقضين خلال الأشهر الأخيرة من عام 2014. فهنالك، من ناحية، ازدياد المعروض الأميركي من الصخر الزيتي، وانخفاض الطلب على النفط في منطقة اليورو واليابان والصين بسبب تباطؤ النمو الاقتصادي، وعدم خفض أوبك لمعروضها النفطي، ما يخفض أسعار النفط. وهنالك، من ناحية أخرى، مجموعة من العوامل التي يفترض أن تؤدي إلى رفعه مثل العقوبات على إيران وروسيا التي خفضت عرض النفط عالمياً والغاز لأوروبا ما يستوجب إيجاد بديل ، وتزايد الطلب على وقود التدفئة في الشتاء في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، وتفاقم التوترات السياسية في العراق وسورية وليبيا. وإذا كانت وفاة الملك عبدالله بن عبد العزيز قد تسببت بقفزة صغيرة في سعر مزيج نفط برنت، على خلفية التوتر الذي يمكن أن يتسبّب به انتقال السلطة في السعودية، واحتمال تأثر معروض النفط السعودي في الأسواق الدولية بسبب ذلك، فما بالكم بالأزمة الأوكرانية والعقوبات على روسيا، كأكبر منتج للنفط الخام في العالم، والعقوبات على إيران وفنزويلا، والصراع في العراق وسورية وليبيا؟!
لو افترضنا أن العوامل التي دفعت في اتجاه انخفاض سعر النفط خلال الأشهر الماضية كانت أكبر أو أقوى من العوامل التي تسببت بارتفاعه، وهذا وارد، كيف لنا أن نفسر حصول انهيار غير مقيد، لا أقل، في سعر النفط، كأن العوامل التي تدفع في اتجاه ارتفاع سعره غير موجودة أصلاً؟! في تعبير آخر: لو افترضنا وجود أرضية لانخفاض السعر، ما هي أرضية انهياره تماماً؟ وفي غياب مثل تلك الأرضية، هل يعود ممكناً استبعاد التفسير السياسي في ضوء عواقب مثل ذلك الانهيار على الموقف الاستراتيجي لدول تحاربها الولايات المتحدة مثل روسيا وإيران وفنزويلا؟ لكن إذا كان هناك قرار سياسي خلف انهيار أسعار النفط، كيف ينفذ مثل ذلك القرار من خلال آلية السوق تحديداً، ومن الذي ينفذه؟
من المؤكد أن سعر النفط لا ينهار بقرار رئاسي مثلاً من باراك أوباما على طريقة كن فيكون! فسعر النفط لا يحدد من لا شيء، مثل قصور الرمال، بل من خلال آلية السوق. بيد أن ذلك لا يعني أن العوامل التي تتحكم في السوق محض اقتصادية، أو لا تتأثر بالقرار السياسي. كما أن السؤال الأهم الذي لا يطرحه معظم المحللين الذين يصرون أن سعر النفط تحكمه آلية السوق فحسب هو: في أي سوق تحديداً يحدد سعر النفط؟ وهنا، في الواقع، مربط الفرس…
لنبدأ بملاحظة صغيرة: إن سعر النفط الذي ينقل عبر وسائل الإعلام يومياً هو سعره الآجل، أي سعر العقد الآجل لبرميل النفط. ولو سعينا إلى إيجاد سعر النفط اليوم في أي محرك بحث على الإنترنت، على موقع «بلومبرغ» مثلاً، لوجدنا قائمة بأسعار أنواع النفط المختلفة في السوق الآجلة، أي سعر بيع أو شراء البرميل بتاريخ معين مستقبلاً ما بين عدة أسابيع وعدة أشهر، فسعر برميل النفط المعروض على الشاشة اليوم هو سعره غداً، وهذا ما يمكن أن يتغير في أيّ لحظة، أما السعر الذي تم عنده بيع أو شراء برميل النفط اليوم فقد حُدّد البارحة.
هذا النوع من البيع أو الشراء المستقبلي يتم من خلال عقود تسمى عقوداً مستقبلية أو آجلة أو عقود خيار تصدر عن هيئات متخصصة في إصدارها في بورصة شيكاغو أو «نيمكس» في نيوريوك أو بورصة السلع الدولية ICE في لندن، وثمة واحدة ثانوية في دبي تابعة أساساً لبورصة نيمكس. فإذا تم شراء عقود مستقبلية لبيع النفط في زمن آجل، فإن ذلك يشبه الزيادة في المعروض، وإذا تم شراء عقود مستقبلية لشراء النفط في زمن آجل، فإن ذلك يشبه الزيادة في الطلب، ومن خلال تلك المشتقات المالية، كما تسمى، يتحدد سعر النفط والكثير من السلع، ومنها القمح والسكر والقهوة والقطن والذرة والكاكاو والمعادن مثل الذهب والفضة وغيرها… وهناك أسواق مستقبلية لكل شيء تقريباً.
المهم أن سعر النفط لا يحدد في السوق بالمطلق، كما يوحي الذين يتحدثون عن حركة العرض والطلب المنفلتة من أي اعتبار سياسي، بل من خلال عرض وطلب العقود المستقبلية. في الواقع، تقدر نسبة العقود المستقبلية التي يتم تنفيذها، أي التي تنتهي باستلام برميل نفط ملموس، بنحو 2 في المئة فحسب تبعاً لدراسة على موقع «غلوبال ريسرتش» في 2 أيار 2008، أما الباقي فيتم بغرض المضاربة، أي بيع وشراء العقد المستقبلي قبل موعد التسلّم أو التسليم الفعلي لبرميل النفط.
الآن تخيلوا مؤسسات مالية عملاقة، مصرفية وغير مصرفية، وبينها أسماء لامعة مثل «جيه بي مورغان تشيس»، «غولدمان ساكس»، «ستي غروب»، «بانك أوف أميركا»، «مورغان ستانلي»، وغيرها، التي تدخل بمئات المليارات للمتاجرة بالعقود الآجلة من مختلف الأنواع من خلال صناديق استثمار تابعة لها. وتخيّلوا أن تلك المؤسسات المالية الدولية العملاقة هي التي تحكم اقتصاد العالم وتحدد أسعار السلع الرئيسية فيه، ثم تخيلوا أنها مخترقة يهودياً حتى تلافيف نخاعها الشوكي: إنه رأس المال المالي الدولي.
أخيراً، تخيّلوا ما أوردته مجلة «بزنس ويك» الأميركية، التي توزع مليون نسخة أسبوعياً، في عددها الصادر في 3 كانون الأول 2014:
مع 24 حزيران 2014، كان المضاربون في أسواق النفط الخام قد اشتروا أكثر من 813 مليون برميل من النفط في الأسواق المستقبلية. منذ ذلك الوقت، كان هناك سعي حثيث للخروج من الباب، إذ ألقوا أكثر من 550 مليون برميل للبيع في السوق الآجل.
هكذا انهار سعر النفط. والبقية في الحلقة المقبلة…
(البناء)