تحوّلات عالمية قاهرة
غالب قنديل
شكلت القروض الخارجية أداة تقليدية في تدعيم الهيمنة الإمبريالية على دول العالم النامية وبعض الدول الأوروبية، سواء ما يُسمّى بالجنوب الأوروبي أو الدول الاشتراكية السابقة التي عرفت تاريخياً بأوروبا الشرقية، وقد خرجت من الكوميكون وحلف وارسو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي قبل حوالى ربع قرن من الزمان، ثم انضمّت تباعاً إلى الاتحاد الأوروبي وارتهنت مالياً وتقنياً لهيمنة الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وجرى تكييف بناها الاقتصادية على أساس الرسملة والخصخصة لمصلحة الشركات العملاقة الوافدة من الولايات المتحدة وألمانيا على وجه الخصوص، بينما جرى منهجياً تدمير منظومة التقديمات الاجتماعية الكبيرة التي كانت ميزة كسبتها الطبقات العمالية والفقيرة بعد الحرب العالمية الثانية في ظلّ النمط السوفياتي.
الأزمة الاقتصادية والمالية الكبرى التي عصفت أخيراً بالرأسمالية العالمية وخصوصاً بالولايات المتحدة، قادت إلى تدابير قاهرة صادرت بالإكراه السياسي جميع الفوائض المالية وهوامش النمو في كلّ من بلدان الغرب الأوروبي ودول الخليج النفطية، التي ساهمت «تقديماتها» السخية من حساب الودائع الضخمة المجمّعة في المصارف متعدّدة الجنسيات في احتواء عناصر التشنّج الكارثية التي خيّمت على الاقتصاد الأميركي مباشرة بعد انهيار أسواق الأسهم وما عرف بمأزق البورصات العالمية، وقد شكلت لقاءات مجموعة العشرين الإطار العالمي لإقرار تلك الالتزامات.
تقدمت إمبريالية القروض من خلال ما يُصطلح على تسميته بصناديق المساعدة العالمية، إذ تقدّم القروض و”الهبات” مقرونة بالتزامات اقتصادية ومالية معينة تمليها على الحكومات المعنية وكالات أميركية وأوروبية وعالمية تنتحل تسميات التنمية والمساعدة، وقد تمّت هندستها لتحميل الطبقات الشعبية الفقيرة أعباء الديون عبر التدابير التقشفية وبتعميم نماذج ضريبية معولمة، كالضريبة على القيمة المضافة، وبتصفية التقديمات الاجتماعية في كلّ مكان على وجه الكرة الأرضية يقصده خبراء البنك الدولي وصندوق النقد، وحيث جرى في العقود الماضية استغلال الأزمات لتوسيع نطاق هيمنة المصارف والشركات العابرة للحدود على اقتصادات الدول في جميع أنحاء العالم، وقادت الولايات المتحدة تلك التحوّلات بفضل التطوّر النوعي في تكنولوجيا المعلومات.
تمثل أزمات الديون السيادية في كثير من دول العالم الثالث وفي جنوب أوروبا وشرقها قيداً خانقاً لفرص التنمية والتقدم الاجتماعي، وتندفع حكومات كثيرة في طريق لحس المبرد، بحيث تجرى مواجهة ازدياد أعباء الديون والقروض بمزيد من الاستدانة ومن غير اتباع أي خطط وطنية لتنمية موارد الثروة، لأنّ التقدم في هذه الطريق يتطلب تبلور إرادة سياسية مستقلة لدى الحكومات بما يكفي للتحرّر من الإملاءات الأميركية المالية والاقتصادية، وبالتالي رفض التبعية ومقاومة منظومات الهيمنة بجميع مستوياتها.
النزعة اليسارية الراديكالية التي تظهر في بعض دول الجنوب الأوروبي، تمثل نوعاً من التمرّد على الهيمنة وقيودها الخانقة. وهي تتقدم وتتوسع في العديد من الدول وتفتح آفاقاً جديدة لتبلور التوازنات العالمية المتحركة بفضل نشوء قوى عالمية منافسة للإمبراطورية الأميركية تتيح خيارات جديدة أمام الدول المعنية، وهذا هو سرّ استعمال الولايات المتحدة أدواتها الحربية المباشرة وغير المباشرة وقدراتها المالية والتقنية الضخمة كذلك في لجم اندفاعة القوى العالمية الصاعدة.
إنّ دولة مثل مصر ترزح تحت عبء الديون باتت قادرة إذا امتلكت قيادتها الإرادة السياسية على الانعتاق من حالة التسوّل المالي والتبعية للأجنبي، إذا اتخذت قرارها السيادي بإقامة شراكة حقيقية مع دول مثل روسيا وإيران والصين ومجموعة «بريكس»، وهو ما ينطبق على اليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وغيرها كبلغاريا ورومانيا وبولندا والمجر وتشيكيا وصربيا.
أدوات الحصار الأميركي ومفاعيله باتت مخلخلة ولم تعد بفاعليتها السابقة نتيجة التغييرات الجارية على المسرح الدولي، وما تبيّنه تجارب كوبا والصين وروسيا وإيران هو أنّ الظروف الاقتصادية العالمية تتبدّل، ولم يعد القرار الأميركي والغربي كافياً لخنق أي دولة كانت في العالم عبر العقوبات والحصار التقني والمالي والتجاري، بل إننا على الأرجح عشية تمرّد عالمي متزايد على المشيئة الإمبراطورية الأميركية.
التبدّلات المقبلة ستؤثر حكماً في الخريطة السياسية والاستراتيجية الأوروبية وفي توازن القوى العالمي، والأكيد أنّ الإمبراطورية الأميركية لن تلقي أسلحتها من تلقاء ذاتها، لكنها لم تعد كلية الجبروت بفعل فشل حروبها الاستعمارية في السنوات الأخيرة خصوصاً في منطقتنا.
الظرف العالمي الجديد يتطلب تبلور كتلة عالمية كبرى مناهضة للهيمنة وقادرة على التقدم تدريجياً بنموذجها الخاص نحو عالم متكافل ومتكافئ، فيه شركاء متساوون من الدول الكبرى والصغرى وباحترام الخصوصية التي تميز كلاً منها كما قال الرئيس فلاديمير بوتين العام الماضي في مقالته الافتتاحية التي نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز».
قد يأتي يوم ليس بعيداً يطرح فيه السؤال عن مستقبل الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي كذلك، وقد تنطلق عمليات فك وتركيب شاملة في الاصطفافات العالمية بما يتوازى مع التعددية القطبية التي باتت حقيقة العصر الطاغية في السنوات الأخيرة باعتراف منظري القرن الأميركي.
وسط الضوضاء ستبقى عين الإمبراطورية الروسية على حوض المتوسط انطلاقاً من سورية وعلى أوروبا الجنوبية والشرقية انطلاقاً من اليونان وصربيا، بينما تستعد الصين لوثبة كبرى عبر البحار والمحيطات، في حين يراكم الشريك الإيراني عناصر القوة على قوس يمتد من بلاد الشام والخليج إلى أواسط آسيا وأفغانستان، أما «العم سام» فيظهر عناداً ومكابرة في اختبار خطط العرقلة والاستنزاف ويخسر مزيداً من سطوته التي يسعى إلى الاحتفاظ بها عنوة عن منطق التاريخ.