مشاورات موسكو تنهي احتكار «الائتلاف» السوري محمد بلوط
من المنتدى التشاوري السوري في موسكو، لن يجد الإعلام، مكتوباً ومرئياً، ما يشبع نهمه، ولن تبصر الكاميرات المثبتة فوق جليد الرصيف المحاذي لدار الضيافة، سوى صف طويل من السيارات في باحتها البعيدة، وأسوارها الحديدية العالية، والتقشف الروسي المفرط في الاحتفاء بالحدث، إلى حد إحباط السوريين الذين تخلوا عن هواتفهم عند باب قاعة الاجتماع، للتفرغ للحوار أولاً.
وخاب أمل من انتظر أن تتكرر في موسكو مآثر جنيف الإعلامية، وتظاهرات الكاميرات التي رافقتها. لكن غيابها أتاح بطريقة متفاوتة التقليل من شأن الحدث، خصوصا لدى من غابوا عن موسكو، أو من لم تتم دعوتهم.
وكان ينبغي انتظار مساء موسكو السوري الأول، في فندق مجاور، كي ينجلي سيناريو الحوار الذي شغل 30 سورياً معارضاً، 12 منهم جاؤوا من الداخل، و18 قدموا من عواصم عربية وأوروبية، تحلقوا حول رئيس «معهد الاستشراق» المستعرب فيتالي ناومكين، مديراً للحوار ووسيطاً.
وتولى المعارض فاتح جاموس تقديم أول مداخلة ورؤية سياسية للأزمة السورية. واختبر المتحاورون السجال بين من تتهمهم المعارضة بالموالاة أكثر من أي معارضة. وافتتح صفوان عكاش النقاش بالقول إن الحوار «يجري بين معارضة رسمية، وأخرى غير رسمية» في إشارة إلى ممثلي الأحزاب المرخصة في الاجتماع. وردت مجد نيازي بالقول إنها تطمح أيضا إلى تغيير النظام، وهددت سهير السرميني بالانسحاب، فيما لو جرى طرح النقاش بالموقع الرئاسي. وقالت «نحن من يعاني في الداخل قبل الآخرين». وقال صفوان عكاش في ما بعد «لقد شعرنا بأننا نحاور الجناح المتشدد للنظام، خصوصا مع ممثلي مجلس العشائر، الذي شكله النظام مؤخراً».
ومع ذلك عكس الحوار السوري في موسكو، احتلال الأزمة الإنسانية المكان الأول في أي مفاوضات مقبلة، لدى كل من شاركوا في الاجتماع، وتكريسها بالمعنى الواسع الذي يشمل وقف العنف، وفتح طرق الإمداد إلى كل المناطق، وإطلاق المعتقلين والمخطوفين فوراً، كمدخل لأي مسار سياسي يسعى إلى إنهاء الحرب السورية. ويغلب هذا الاتجاه على كل ما عرفته المفاوضات واللقاءات بين أي طيف من أطياف المعارضة والدولة السورية، متقدماً على بند مكافحة الإرهاب، أو البحث بشكل الدولة المقبلة أو الموقع الرئاسي والهيئة الانتقالية. «الوقت يداهمنا مع استمرار الحرب، ينبغي وقف النزف أولاً، وعدم تضييع الوقت» قالت رئيسة «حركة المجتمع التعددي» رندا قسيس.
ومن المفترض أن تتصدر الأزمة الإنسانية وأولويتها في الحل ورقة المعارضة السورية في موسكو، على أن تُعرض غداً على وفد حكومي يرأسه مندوب سوريا إلى الأمم المتحدة بشار الجعفري. والى الجعفري يضم الوفد معاون وزير الخارجية أحمد عرنوس، وخبيري القانون الدولي والعلاقات الدولية محمد خير عكام واحمد الكزبري، والملحق بالمكتب الإعلامي في رئاسة الجمهورية امجد عيسى.
وقال أمين سر «هيئة التنسيق» في المهجر ماجد حبو إن المعارضة قد تكلف أحد شخصياتها لقراءة الورقة المشتركة «ليس كممثل للمعارضة، ولكن كقارئ لهذه الورقة» على أن يكون جمال سليمان على الأرجح قارئها.
وعرض حبو لوقائع أولويات القاعة الحوارية في الأزمة الإنسانية قبل الدخول في السياسة، ونقاط التلاقي حول أولوية الملف الإنساني وإجراءات بناء الثقة، التي ستتبلور اليوم في ورقة مشتركة. وقال ان «توافقاً جرى على تأجيل النقاط الخلافية: من شكل الدولة المقبلة، ودستورها، والموقع الرئاسي، والتركيز على إجراءات بناء الثقة، والملف الإنساني»، فيما قال زعيم «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي صالح مسلم محمد إن «جميع المسائل ينبغي أن تكون قابلة للنقاش».
وإذا كان ممكناً تسجيل أول إنجاز حققه لقاء موسكو بمجرد انعقاده، «فهو إنهاء التمثيلية الحصرية للائتلاف السوري، وترقية أطياف من المعارضة السورية إلى طاولات التفاوض في عواصم دولية، لم ينتخبها أصدقاء سوريا» كما قالت قسيس.
ولكن تعزيز قدرتها على التفاوض، يحتاج إلى المزيد من الوقت، والى تثبيت المحطات المقبلة من حوارات موسكو، وضم المزيد من التيارات والشخصيات المستقلة إليها، وتعزيز حضور المعارضة الداخلية، شريطة أن يتفادى الروس الأخطاء البيروقراطية، وان يظهروا مرونة اكبر في تنظيم الجولة المقبلة من الحوار. والحال انه رغم غياب وجوه الصف الأول من «هيئة التنسيق» كهيثم مناع، وحسن عبد العظيم، وعارف دليلة، إلا أن الهيئة وفرت أرضية ومصداقية للاجتماع، بحضور ستة من أعضائها إلى موسكو، فيما لم يشكل غياب «الائتلاف» مفاجأة لأحد، لان الروس لم يعوّلوا على حضوره، فضلا عن أن غيابه في الجولة الأولى قد يكون مفيداً لبناء أرضية تفاوضية، لا يمتلك «الائتلافيون» رغبة حقيقية بالمساهمة فيها.
وقال نائب رئيس «التنسيق» هيثم مناع انه كان سيشارك في الحوار «لو أن الروس وافقوا على دعوة الأسماء التي طرحتها، كجهاد مقدسي، أو حبيب حداد، ولا يمكن لأحد أن يأتي من دون فريقه الذي يعمل معه». وأشار إلى أن الروس اتصلوا متأخرين لحثه على الحضور و «لكن على من يريد أن يكون وسيطاً في الحوار، أن يدعو الجميع بتكافؤ، إذ طلب الروس موافقة النظام على أسماء من أوفدنا، وهكذا اعترض الوزير (وليد) المعلم على جهاد مقدسي، فيما لم تعرض علينا أسماء وفد النظام، وسنشارك إذا رفع الحكوميون تمثيلهم، وتمت تلبية طلباتنا من الطرف الروسي، والتأكيد أن الحوار سيفضي إلى جنيف».
ويخرج جنيف من حوار اليوم الأول في موسكو، أقل مرجعية منه في أي حوار سابق. ويعبّر ذلك عن إعادة نظر واسعة في الأولويات، وهي تشق طريقها نحو التبلور بين أطياف المعارضة الداخلية، والدولة السورية، والديبلوماسية الروسية، وهو ما ستحمله ورقة الحوار المعارض هذا المساء. وتسمح ورقة كهذه لموسكو بتحقيق أحد أهدافها بإحداث فرز بين أنصار جنيف في قراءته «الائتلافية»، قبل ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» – «داعش»، والداعين إلى تغليب الواقعية والمرونة في مسألة تشكيل هيئة انتقالية كاملة الصلاحيات، لا تعني سوى استمرار الحرب، فضلا عن عيوبها الأخرى، وتجاهلها القضية الكردية. «ينبغي تعديل (بيان) جنيف، والتوافق على النقاط الخلافية فيه، لأن السوريين لم يكونوا حاضرين عند صياغته» بحسب ممثل «الاتحاد الديموقراطي» في فرنسا خالد عيسى.
وأعاد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف تحديد الإطار الجديد للمسار السياسي الذي لا يتطابق مع قراءة جنيف الأولى، الذي تسعى إليه موسكو من خلال الحوار. ورأى لافروف أن «اللقاء التشاوري سيمهد أرضية يمكن التقدم منها نحو مفاوضات مستقبلية تحت غطاء الأمم المتحدة».
وبخلاف ما كان معلناً في موسكو، فإنه من المفترض أن يؤدي الحوار السوري، إلى بيان ختامي يتضمن مواعيد الحوار المقبل، والمشتركات التي يمكن البناء عليها بين المعارضة والدولة. وقال مصدر سوري إن الروس استجابوا لطلب دمشق إصدار بيان ختامي، خصوصا أن الكثير من النقاط التي بدأت بالتبلور تسمح بذلك، خصوصا بيان القاهرة الذي عدد أولوية مكافحة الإرهاب، وحصر السلاح بيد الدولة، ووحدة سوريا وسيادتها.
وقال المصدر السوري إن ورقة تفاهم من هذا النوع ستؤدي إلى تسريع المصالحات في الداخل، خصوصا أن الكثير من «كتائب الجيش الحر»، أو ما تبقى منها في مواجهة «داعش» و «جبهة النصرة» في القلمون وغيرها، ستذهب إلى التعاون مع الجيش السوري، بصورة علنية وأسرع مما كان في الماضي، ضد الإرهاب.
(السفير)