جنوب أوروبا ولبنان واليسار الراديكالي
غالب قنديل
في ظل موجات الركود العالمي المتواصلة تعصف الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة بدول جنوب اوروبا وخصوصا : اليونان وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال وتعمل الدول الصناعية الكبرى وخصوصا كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا التي تقود الاتحاد الأوروبي إزاء تفاوت انعكاس الأزمة اجتماعيا وسياسيا لفرض إملاءات كثيرة على حكومات الجنوب الأوروبي التي أرغمت على مضاعفة الضرائب والرسوم التي تطال شتى وجوه الحياة وعلى التراجع عن سياسة التقديمات الاجتماعية والأدوات المستعملة في فرض الإملاءات هي القروض المالية الضخمة بمئات مليارات الدولار بغية الدفاع عن سعر صرف اليورو العملة الموحدة في الاتحاد الأوروبي ومانحو تلك القروض هم الدول الأكثر تقدما في الاتحاد الأوروبي وخصوصا ألمانيا ومعها صندوق النقد الدولي.
حل الأزمات المالية والنقدية على حساب مستوى حياة الفقراء والشغيلة في المجتمعات الأوروبية هي الوصفة التي اهتدت إليها الأوليغارشية المالية في الاتحاد الخاضع بكليته لأولويات الولايات المتحدة التي انقذ اقتصادها من الانهيار بالفوائض المالية الأوروبية والخليجية خلال السنوات الماضية منذ ازمة انهيار البورصات العالمية عام 2008 بينما تم توليف المخارج المالية والمصرفية داخل دول الاتحاد على حساب مستوى حياة الشعوب .
اليسار الجديد الذي يحظى بمساندة متصاعدة في اوساط الطبقات الشعبية العمالية والمتوسطة يتبنى نهجا يقوم على مبدأ رفض الإملاءات التي تفرضها ألمانيا وصندوق النقد الدولي والمفوضية المالية في الاتحاد الأوروبي لصالح إعادة هيكلة الديون ورفض الالتزام بأجندة المدفوعات الربوية التي يمليها هذا الثلاثي على حكومات دول الجنوب الأوروبي وهذا اليسار يطرح تصورا لإنعاش الاقتصاد الوطني من خلال إعادة هيكلة الدين العام ورفع أعباء السداد عن كاهل الكادحين والفقراء من خلال سياسة ضريبية جديدة تنهي التحكم بحياة الناس اليومية عبر ضرائب القيمة المضافة وغيرها من الرسوم التي اعتمدت في زمن العولمة الأميركية الذي اجتاح دول العالم .
التمرد على الدائنين بقوة التفويض الشعبي والتصميم على تحرير ارقام المديونية من الفوائد الباهظة المتراكمة وجداولها الثقيلة هو صلب القرار الوطني الذي تسعى أحزاب اليسار الجديد لبلورته مع اعتماد خطة لتنمية وتنشيط الإنتاج الوطني ومضاعفة فرص العمل في المجتمعات الأوروبية الجنوبية وهذا توجه يحظى بالمزيد من المساندة العمالية والشعبية كما بينت الانتخابات اليونانية الأخيرة وكما يتوقع في إيطاليا وأسبانيا والبرتغال .
هذا الاتجاه يعنينا مباشرة في لبنان حيث تمثل المديونية الخارجية والداخلية عنصر التحكم الرئيسي بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية للدولة اللبنانية وبالتالي يمثل النظر في خيار إعادة هيكلة المديونية العنصر الرئيسي في أي سياسة اقتصادية ومالية جديدة لإنقاذ البلاد من حمى الركود وآثارها المدمرة ففي السنوات العشرين الماضية شكل بند خدمة الديون الخارجية والداخلية المظهر الرئيسي للانكماش الاقتصادي والمالي وهو ما ينبغي التحرر منه في سبيل إطلاق حركة الاستثمار المجدي لمضاعفة الثروة وعكس الاتجاه من مسار الاستنزاف إلى التراكم الإيجابي في فائض الثروة وإعادة توزيع العائدات بالحد الأدنى المتاح من العدالة الاجتماعية بين اللبنانيين .
المشكلة في لبنان هي أن أيا من القوى السياسة لاتظهر أي مقدار من الجرأة في تبني مثل هذا الاتجاه والعمل على خوض الكفاح الشعبي المؤدي إلى انتصاره وهو التحدي الذي تتشكل على أساسه القوى الثورية الحقيقية في الواقع اللبناني فمن يجرؤ على تحدي ديكتاتورية الرأسمال المالي ؟ سؤال سيبقى برسم الأحزاب ومنظريها وقادتها وزعمائها على امتداد الطوائف والطبقات الاجتماعية في بلد الأرز .