المحكمة الجنائية الدولية: انتصار لفلسطين… ومشكلة للفلسطينيين د. ليلى نقولا الرحباني
لا شكّ أن ما قام به الرئيس الفلسطيني محمود عباس من قبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية والانضمام إلى نظام روما الأساسي، يُعدّ خطوة هامة في تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني، ولردع “إسرائيل” عن جرائمها التي تعدّت في كثير من الأحيان جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لترقى إلى مستوى “الإبادة”، من خلال الحصار التجويعي الذي مارسته على قطاع غزة، وغيرها من الممارسات المستمرة منذ عقود.
قد يكون الانضمام إلى المحكمة خطوة جبارة ستعرّي قادة “إسرائيل” أمام الرأي العام العالمي، بوصفهم قتلة الأطفال عمداً، ومرتكبو جرائم دولية كبرى، ثم هاربون من العدالة، لكن لا بد من إدراج بعض الملاحظات حول موضوع الانضمام وما ينتظر الفلسطينيين منه:
أولاً: بعكس المحاكم الدولية الأخرى التي تحاكم على وقوع جرائم تاريخية سابقة، إن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية هو ذو بعد مستقبلي، أي إنها لا تحاكم على جرائم دولية ارتُكبت قبل تاريخ إقرار نظام روما الأساسي في تموز 2002، وتستطيع الدولة التي تنضم إلى المحكمة أن تختار التاريخ الذي تريد للمحكمة أن تمارس اختصاصها ضمنه، وهو في حالة فلسطين 13 حزيران 2014، أي تاريخ بدء العملية “الإسرائيلية” الأخيرة ضد قطاع غزة.
ولقد انتقد كثر من الحقوقيين قيام السلطة الفلسطينية بتحديد هذا التاريخ، معتبرين أنه يمكن محاسبة “إسرائيل” على الجرائم التي ارتكبتها قبل ذلك، خصوصاً عام 2009، أي عملية الرصاص المصبوب، وقد تكون وجهة النظر تلك محقة، لناحية أن تقارير عدّة صدرت عن منظمات دولية، وأهمها تقرير غولدستون، الذي توصّل إلى أدلة تدين “إسرائيل” بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بالإضافة إلى شهادات جنود الجيش “الإسرائيلي” أنفسهم. لكن المشكلة تكمن في أن تلك التقارير أدانت “إسرائيل” ومعها حركة “حماس” أيضاً بارتكاب جرائم حرب. وهكذا تكون السلطة الفلسطينية بتحديدها تاريخ حزيران 2014 قد حمت أعضاء منظمة “حماس” من أي إمكانية للمثول أمام المحكمة بموجب تلك التقارير.
ثانياً: من المفيد التأكيد أن المحكمة الجنائية الدولية، على عكس المحاكم الوطنية؛ لا تملك سلطات تنفيذ مباشرة للقانون، وعليه، لا تستطيع أن تنفّذ أمراً بالقبض على أي شخص أو تفتيش منزل أو منشأة، أو إجبار الشهود على المثول أمامها، بل تعتمد على السلطات الوطنية في تنفيذ ذلك، لذا يبقى الأمر منوطاً بتعاون الدول معها، وهكذا، يكون من واجب السلطة الفلسطينية التعاون مع المحكمة، بموجب المادة 86 من نظام روما الأساسي، أما “إسرائيل”، وهي دولة غير طرف، فهي غير ملزمة بالتعاون إلا في حال صدور قرار من مجلس الأمن – وهو مستحيل – أو توقيع اتفاقية خاصة مع المحكمة بهذا الإطار، ولن تفعل بالتأكيد.
هذا التعاون سيسبب مشكلة للسلطة الفلسطينية في المستقبل، إذ يفترض بها تسليم أي فلسطيني – مقاوم – إلى المحكمة، في حال تمّ اتهامه بالقيام بأعمال حربية لا تميّز بين المدنيين والعسكريين، وهو ما يمكن أن يرقى لمستوى جرائم حرب بموجب القانون الدولي، لكن نظام روما الأساسي أوجد حلاً لهذه المعضلة، وهي أن تقوم السلطة الفلسطينية بنفسها بمحاكمتهم، وهكذا يتعذّر على المحكمة الدولية القيام بذلك، إذ إن نظام المحكمة يقوم على “مبدأ التكامل”، الذي يعني أن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية “مكمّل” للولايات القضائية الجنائية الوطنية، وليس بديلاً عنها، بحيث تمارس اختصاصها عندما تكون الأنظمة الوطنية “غير قادرة” أو “غير راغبة” بالتحقيق ومحاكمة “الأشخاص الطبيعيين” من مرتكبي الجرائم الدولية، فيكون من واجب المحاكم المحلية تحقيق العدالة، وتكون المحكمة الجنائية الدولية “الملاذ الأخير”، تاركة للدول الأعضاء القيام بـ”واجب المقاضاة والتحقيق”.
هذا في القانون، أما في السياسة، فالأكيد أن “إسرائيل” لن تتعاون مع المحكمة، ولن تقدِّم لها أي تسهيلات للتحقيق، وقد يتم الضغط من قبل الولايات المتحدة الأميركية و”إسرائيل” على المدعي العام للمحكمة السيدة فاتو بنسودا، لرفض القضية، أو استخدام الآليات المتاحة في نظام روما الأساسي لتأجيل التحقيق، ويبقى الموضوع بالرغم من ذلك انتصاراً لفلسطين وشعبها حققته السلطة الفلسطينية، لكن يبقى أمام السلطة الفلسطينية التحدي الأكبر: كيف ستتخلص من سيل الاتهامات التي ستُطلق ضدها من داخل فلسطين وخارجها في حال قامت بمحاكمة أعضاء من “حماس” لتخليصهم من القضاء الدولي؟