بقلم ناصر قنديل

سمع الأميركيون للأسد وركبوا رؤوسهم

nasser

ناصر قنديل

– ليس صحيحاً أنّ الأميركيين لا يشاورون ولا يسألون ولا يستمعون، لكن الصحيح أنّ الأميركيين قبل زمن المحافظين الجدد كانوا أشدّ عقلانية وأكثر تواضعاً، وأعمق فهماً لحدود القوة، ففي مرات ثلاث لجأ الأميركيون إلى سورية يسألونها عن كيفية التعامل مع متغيّرات السياسة، المرة الأولى كانت في عام 1990 عندما وقع غزو الكويت من قبل النظام العراقي السابق وكان الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر يقودان الولايات المتحدة الأميركية، وبدا أنّ قرار التدخل العسكري قد اتخذ، وبقي الأميركيون ينتظرون حتى تسنّى لهم سماع الرئيس حافظ الأسد، وكان ما سمعوه يرتكز على ثلاث نقاط، الأولى هي أنّ صورة الولايات المتحدة الأميركية عند العرب شديدة السوء بسبب موقفها الأعمى الداعم لـ«إسرائيل» وتعطل عملية السلام القائمة على القرارات الدولية ووصولها إلى طريق مسدود، والثانية هي أنّ سورية لا توافق على احتلال بلد لآخر، ومن هذا المنطلق وعلى رغم إيمانها بالوحدة العربية فهي لا تشرّع احتلال بلد عربي لآخر، وإخراج الجيش العراقي من الكويت أمر يجب منحه الفرصة السياسية ليتمّ رضائياً بضغط عربي على العراق، وإذا استعصى فاللجوء إلى القوة يجب أن يحافظ على عنوانين، الأول البعد الدولي القانوني عبر قرار يصدر عن مجلس الأمن والثاني ميداني عبر شراكة عربية وازنة في التنفيذ، وسورية مستعدة في هذه الحال أن تكون جزءاً من العملية المتكاملة، أما النقطة الثالثة فكانت إصرار الرئيس حافظ الأسد على أنه في حال الخيار العسكري فيجب وقف الحرب عند حدود تحرير الكويت من دون التفكير إطلاقاً في غزو العراق.

– ذهب الأميركيون وفقاً للوصفة التي قدّمها الرئيس حافظ الأسد ولم يركبوا رؤوسهم، وتحرّرت الكويت وانطلقت عملية مدريد للسلام، وفي ظلالها كان إطلاق تطبيق اتفاق الطائف في لبنان لوقف الحرب، وإعادة تكوين الدولة ومؤسّساتها، ويعرف كلّ المتابعين والمعنيّين بشؤون المنطقة أنّ الأميركيين على رغم تحالفهم العميق مع «إسرائيل»، قدموا التغطية الدولية اللازمة للدور السوري في لبنان، والغطاء بقي متوفراً وصالحاً، على رغم انهيار عملية مدريد، وفشل المساعي لتحقيق الانسحاب «الإسرائيلي» وفقاً للقرار 425، واضطرار «إسرائيل» إلى الانسحاب قسراً تحت ضربات المقاومة المدعومة علناً من سورية، وعلى رغم ما لحق كلّ ذلك من تعمّق الخلاف بين سورية وأميركا، حتى عام 2004 وصدور القرار 1559، في زمن ما بعد حرب العراق وموقف سورية المساند للمقاومة فيها وفي لبنان وفي فلسطين، ورفضها إملاءات كولن باول القائمة على مطالبة سورية بفك علاقتها بالمقاومة كقوى وخيار.

– أما على ضفة مدريد كعملية وصلت إلى طريق مسدود فقد بقيت ما عُرفت باسم «وديعة رابين» ثمرة قانونية لدى الديبلوماسية السورية تحسم مبدأ الانسحاب «الإسرائيلي» إلى حدود الرابع من حزيران في جبهة الجولان، والوديعة التي حملت اسم صاحبها اسحاق رابين كانت آخر ثمرات مدريد، قبل أن يُقتل رابين على يد المتطرفين الصهاينة الذين قتلوا معه العملية برمّتها.

– ذهبت عملية مدريد من جهة وتحرّر جنوب لبنان بقوة المقاومة المدعومة من سورية من جهة مقابلة، ورحل الرئيس حافظ الأسد، وتوهّم الحاكم الوافد إلى البيت الأبيض بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، أنّ لحظة الإطباق على سورية كثمرة ناضجة قد حانت، وأنّ زعامة العالم تناديه، وأنّ ما جرى في حرب يوغوسلافيا من جهة، وتفكك الاتحاد السوفياتي من جهة أخرى، يسمحان له بالرهان على نظرية دونالد رامسفيلد وأركان البنتاغون الجدد بول وولفوفتيز وريتشارد بيرل بإعادة رسم خريطة العالم بالقوة العسكرية في حروب على نمط يوغوسلافيا، عنوانها خسائر صفر، لا حساب فيها لمنظمة دولية قالوا إنها بلا قيمة، ولا لقانون دولي قالوا إنه خارج التاريخ، ولا لأوروبا القديمة لأنّ أوروبا الجديدة هي الحكومات التابعة لواشنطن التي ورثت الحكم الشيوعي في أوروبا الشرقية، وبالتأكيد لا مكان لروسيا والصين، والثورات الملوّنة ستحاصرهما من التيبت وهونغ كونغ إلى أوكرانيا وجورجيا.

– أعدّ الأميركيون لغزو أفغانستان، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، لكنهم مرة أخرى قرروا سماع سورية، وأرسلوا وفداً من الكونغرس للقاء الرئيس بشار الأسد، وكان اللقاء وكانت الحصيلة بين أيدي الأميركيين جملة نصائح عن الفارق بين الانتقام من الإرهاب وبين معالجة الإرهاب، واصفاً الإرهاب بالسرطان الخبيث الذي يتغلغل من دون أن تستطيع مراقبة نموّه وكشفه بالفحوص السريرية والمخبرية، والذي لا يداوى بالانتقام، فالانتقام هنا كجرح العضو المصاب وشقه، ولن يؤدّي إلا إلى انتشار السرطان ولو ظهر لوهلة أولى أنّ بعض المناطق المصابة قد تمّ تطهيرها، ووصف العلاج المجدي بالمؤلم والطويل، لأنه يشتغل على جذوع الخلايا وحمضها النووي وهو هنا الاقتصاد والثقافة، ومن بعدهما السياسة، وخلص الرئيس بشار الأسد إلى القول إنّ غزو أفغانستان سيكون خطأ تاريخياً يفقد أميركا التعاطف الذي كسبته في قلوب العالم كله، وصرفاً غير موفّق لهذا الرصيد الذي جلبته المأساة، والذي يُستحسن صرفه في مكان يعزّز من المكانة الأميركية عبر إدارة حوار عالمي هادئ حول تعريف الإرهاب وكيفية مواجهته، وخصوصاً في ماهية العلاقات الدولية النموذجية لعالم خال من الإرهاب، ولأنّ الإرهاب الذي نتحدّث عنه يستظلّ بالإسلام ويبدو أنه موجه ضدّ الغرب فمن الضروري البحث في كيفية تنقية العلاقات بين الغرب والمسلمين من نقاط الضعف، خصوصاً عندما تظهر أميركا أنها تريد مقاتلة الإرهاب الذي يرتكبه مسلمون وتدافع عن إرهاب ترتكبه دولة محظية في واشنطن هي «إسرائيل»، استمع الأميركيون وركبوا رؤوسهم وذهبوا إلى حربهم، وعند أول بوادر الفشل فيها كانوا قد أكملوا عدة حربهم الثانية، واتجهوا صوب العراق.

– قبيل الحرب على العراق وبعدما اكتملت العدة وصار العرب كلهم في الجيب الأميركي يقرعون طبول الحرب، بقيت سورية وبقي الرئيس بشار الأسد، وبقيت العبارات الشهيرة التي قالها في مؤتمر القمة العربية الذي عُقد في شرم الشيخ عام 2002، وقال فيها إنّ المستهدف ليس بلداً بعينه ولا نظام حكم بعينه ولا حاكماً بعينه، بل هو الأمة كلها لجرّها إلى حروب تفتّتها على أساس الأعراق والطوائف والمذاهب، ولم يسمع العرب، فجاء الأميركيون ليسمعوا، وزاره معاون وزير الخارجية الأميركية وليم بيرنز يسأل رأي سورية بالحرب على العراق، وسمع أنّ سورية ترى الحرب خطأ قاتلاً ستندم عليه واشنطن وستلجأ تطلب المعونة للخروج من المستنقع، وأنّ المقاومة ستنطلق في وجه الأميركيين وسورية ستكون مع هذه المقاومة، لكن الأخطر لن يكون المقاومة بل الإرهاب الذي سيتفشى في العراق ومنه إلى المنطقة وربما إلى العالم، ولن تفيد معه عندها النصائح فسيكون قد فات الكثير من الأوان وزُهقت الكثير من الأرواح، وقال الأسد لبيرنز: ليست حكومتكم بحاجة إلى عرض قوة لتثبت قدرتها على احتلال العراق أو أفغانستان، لأنّ السؤال لا يطاول هذه القدرة، بل ماذا سيحدث في اليوم التالي لاحتلالكم العراق، ستكتشفون أنكم عاجزون عن قيادة عملية سياسية تنتج استقراراً يسمح لكم بالانسحاب، وتجدون أنفسكم تغرقون ويغرق معكم العالم والمنطقة في بحر من الفوضى والأزمات، وتأتون تسألون ما العمل؟ الناس ستعاملكم كمحتلين ولن تصغي إليكم، وفي المنطقة شعوب تحمل لكم ذاكرة حمايتكم العمياء للاحتلال والعدوان «الإسرائيليّين»، وستكتشفون ولكن للأسف بعد فوات الأوان صحة ما نقول لكم وصدق نصائحنا.

– ركب الأميركيون رؤوسهم وأطلقوا الأعنّة لفرسان الحرب، وغرقوا في العراق وأفغانستان، فكانت نظرية ما لا تحله الفوضى يحلّ بالمزيد من الفوضى بعد فشل نظرية ما لا تحله القوة يحلّ بالمزيد من القوة، وجاء «الربيع العربي» وقذفت كرة النار نحو سورية، وكان الإرهاب حصان الرهان الرئيسي، وها هو الإرهاب يتجذر ويتمكن، ويصير خطراً على العالم في قلب العواصم التي رعته وساندته واستجلبته إلى سورية، وهذه المرة كان الرئيس بشار الأسد يحذر منذ اليوم الأول، ويردّد أنّ سورية ستمتلك مناعة الصمود، لكن اللعب مع وحش الإرهاب سيجلب الكارثة على العالم وسيكتشف الذين جلبوه لتدمير سورية وإسقاطها أنهم أول الضحايا، وها هم ضحايا، وها هو الرئيس الأسد يعيد، الحلف في وجه الإرهاب ينطلق من نزاهة القول إنّ الحرب على الإرهاب أولوية، فهل يتصرّف الغرب في خصوماته وتحالفاته على أساس أنّ الحرب على الإرهاب بوصلته في الاختيار؟

– لا يزال الغرب وحلفاؤه غارقون في علاقاتهم الملتبسة بالإرهاب، وأغلب خصومه يخوضون حربهم على الإرهاب، بينما يضطرون إلى تسخير جزء من قدراتهم للأسف لصدّ ما يدبّره الغرب ضدّهم.

– سيمرّ وقت طويل قبل أن يصحو الغرب من هذا الغرور، ويدرك أنّ نصيحة ابن البلد لا تقدّر بثمن فكيف إذا كان حكيماً وشجاعاً؟

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى