الإرهاب وحزب الحرب الأميركي
غالب قنديل
شكلت الحرب على الإرهاب بعد هجمات 11 أيلول غطاء لإطلاق استراتيجية استعمارية عدوانية في الشرق تحت عنوان الحروب الوقائية التي حشدت لها تحالفات دولية وجيوش وأساطيل الإمبراطورية الأميركية والحلف الأطلسي لاحتلال أفغانستان والعراق. وسخرت في خدمتها هيمنة واشنطن على الأمم المتحدة التي عملت في ظل إدارة جورج بوش كجهاز تنفيذي سياسي وقانوني تديره الاستخبارات الأميركية.
كانت تلك الحروب مكرسة لمبدأ «منع نشوء قوى عالمية منافسة» الذي اعتمده مجلس الأمن القومي الأميركي في عهد جورج بوش الأب، بالتالي الحؤول دون تعديل التوازنات العالمية بصورة تنهي سيادة الهيمنة الأحادية الأميركية على العالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.
كسرت الغزوات الأميركية على الأرض بمقاومة ضارية تكفلت بها شعوب المنطقة، ومع الفشل في حربي أفغانستان والعراق في ظل الاحتواء الذكي الروسي الصيني والإيراني تمت زعزعة منظومة الهيمنة الاستعمارية في الشرق العربي بتدمير هيبة الردع الإسرائيلية عام 2006 على يد المقاومة اللبنانية بدعم كبير من سورية وإيران. وهي الحقيقة التي أكدتها جميع الحروب اللاحقة التي خاضتها منظومة الهيمنة في المنطقة ضد سورية ولبنان وقطاع غزة بقيادة الولايات المتحدة وبواسطة الجيش «الإسرائيلي».
انصب الجهد الأميركي مذذاك على بلورة استراتيجية الحروب بالواسطة، كما حصل بعد هزيمة فيتنام بفعل العجز عن مواصلة شن الغزوات الكبرى نتيجة التراجع الاقتصادي الخطير منذ أزمة 2008، ومع تداعيات الهزائم والفشل داخل المجتمع الأميركي، وبفعل تبلور معادلات رادعة تحد من القدرة على تحمل تبعات الاشتباك اندلاع مواجهات عسكرية شاملة وهو ما أظهرته اختبارات القوة ضد سورية وحسابات الحرب على إيران. وجاءت التجربة خلال السنوات الأخيرة مجدداً بفشل كبير لخطة الأخونة التي قادها أردوغان وتنظيمات الإخوان المسلمين، وجندت لها فصائل «القاعدة» في البلاد العربية والعالم، وهو فشل انطلق من صمود سورية، وتأكد بمآل التطورات في مصر وليبيا واليمن.
على رغم حصاد التجربة المستمرة منذ ثلاثين عاماً تعيد الإمبراطورية الأميركية الكرة مجدداً وتكرّس فصائل التكفير وتنظيمات الإخوان كقوة حرب احتياطية، وعلى رغم الدروس القاسية لارتداد الإرهاب التكفيري وما يوصف بخروجه عن السيطرة، أدار الغرب أذنه الصماء لتحذيرات الرئيس بشار الأسد في السنتين الأخيرتين.
النظرية التي بلورها البنتاغون لحروبه الجديدة تقوم على ما يُسمّى البصمة الخفيفة والقيادة من الخلف من دون إنزال جنود على الأرض وعبر استخدام الطائرات من دون طيار وأسراب الطيران الحربي، والاعتماد على قوات المرتزقة التي نظمت برامج تدريبها تحت عنوان المعارضة السورية المعتدلة. وهذا هو محتوى حملة أوباما التي انطلقت بعد ما عرف بغزوة الموصل، بينما صعد حزب الحرب الأميركي من ضغوطه للعودة إلى نهج إدارة دبليو بوش بتدخل عسكري واسع في سورية والعراق معاً، وهو يزيد مؤخراً من ضغوطه على الإدارة انطلاقاً من الصورة الباهتة لنتائج حملة أوباما على «داعش»، وباشر حملة لاستثمار هجوم باريس الإرهابي لهذه الغاية. وقد تناقلت بعض وسائل الإعلام الأميركية معلومات عن مناقشات في الكونغرس مع الجنرال مارتن ديمبسي رئيس هيئة الأركان المشتركة لإقناعه بتبني فكرة إرسال ثمانين ألف جندي إلى العراق، ما يعني محاولة جديدة لفرض الاحتلال والوصاية على هذا البلد والمغامرة بصدام مباشر مع إيران التي يؤكد الرئيس الأميركي عزمه على تكريس آخر عامين من ولايته الثانية لإنجاز اتفاق معها حول الملف النووي، ولا ينفك يكرر تطلعه إلى إحداث نقلة تاريخية عبر الاعتراف بها كقوة صاعدة وفاعلة في المنطقة والعالم.
شعار مكافحة الإرهاب هو الغطاء الذي يوظفه حزب الحرب لتخريب العلاقة التفاوضية الناشئة مع إيران لمصلحة «إسرائيل» انطلاقاً من العراق، تماماً كما اعتبر الانقلاب الأوكراني رد المحافظين الجدد على تفاهم الرئيسين الروسي والأميركي المتعلق بالكيماوي السوري الذي أخرج أوباما من ورطة أوشكت أن تتحول إلى حرب كبرى.
الاشتباك بين موسكو وواشنطن لا يزال مستمراً على رغم المؤشرات حول ميل البيت البيض لاختبار فرص التفاهم حول أوكرانيا والشراكة من الباطن مع روسيا في تفعيل عملية سياسية سورية، تقوم على الاعتراف بالمكانة الحاسمة للرئيس بشار الأسد، وفقاً للاعتراف الخجول الذي أورده بيان الناطقة بلسان الخارجية الأميركية. لكن خطة حزب الحرب الأميركي تقوم على منع ختم الجروح التي أثارتها حروب الولايات المتحدة بتسويات سياسية أو عبر التكيف مع التوازنات المتغيرة. وقد عبر عن ذلك تقرير مطول نشره معهد واشنطن قبل شهرين لرئيسه روبرت ساتلوف يدعو فيه لنقل ملفات الأزمات الكبرى إلى جدول أعمال الإدارة الأميركية الجديدة التي يخطط المحافظون الجدد واللوبي الصهيوني لاكتساحها مرة أخرى بعد عامين، وهم يجاهرون باعتبار الاتفاق مع إيران والتراجع في سورية خطراً كبيراً على إسرائيل التي أعطاها فرانسوا هولاند صدارة مسيرة باريس على رغم كلام نتنياهو العنصري والمهين، ناهيك عن رفضهم الصارخ لأي تراجع عن منظومة الهيمنة الأحادية بقبول شراكة دولية جديدة تنطلق من التفاهم مع روسيا وإيران والصين.
ستبقى العبرة الحاسمة في قدرة إدارة أوباما على مجابهة حزب الحرب وخروجها الكلي من عقيدة «النوم مع الشيطان» الأمر الذي لا تزال تتجنب الخوض فيه أو السعي لتحقيقه بالتعاون مع الدول المعنية، خصوصاً روسيا والصين في مجلس الأمن الدولي وكل من سورية وإيران والعراق ومصر، بالتالي بإرغام شركائها على الالتزام بتفكيك منصة العدوان على سورية تحت طائلة العقوبات الدولية. وإلى حين تبدل المشهد على هذا المقلب ينبغي النظر بريبة إلى اجترار العواصم الغربية للكلام عن مكافحة الإرهاب بوصفه خديعة استعمارية مستمرة تبطن غير ما تظهر.