تركيا: باكستان الشرق عامر نعيم الياس
لا يبدو الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان في طور التراجع عن استراتيجيته في المنطقة وسورية، على رغم إصرار كلٍّ من روسيا وإيران على احتواء الإخوانيّ المتعصّب بشتّى السبل، وعدم قطع خطوط التواصل معه، لا بل تطويرها إلى أبعد مدى وكلّما أتيحت الفرصة لذلك.
الأوروبيون والأطلسيون حلفاء أردوغان في موقفه من العراق وسورية، لا نيّة لديهم للتأثير على موقف حليفهم وممرّ عبورهم في «الجهاد الرخيص» إلى سورية. فمشروع تدمير سورية جدواه أكبر من عملية هنا أو هناك، حتى لو انتقلت «الحرب المقدّسة» إلى داخل إحدى أهمّ عواصم أوروبا «باريس»، وأصبح التهديد الإرهابي عامّاً وملموساً. فشعار الحرب على الإرهاب صار عنواناً للصراع على تقاسم النفوذ العالمي، ولعب دور الضحية صار الطريق إلى الدخول في لعبة تدمير الآخر.
وفي هذا السياق، وعقب الهجوم الذي استهدف مجلّة «شارلي إيبدو»، نُقِلَ عن هاكان فيدان رئيس الاستخبارات التركية قوله، خلال المؤتمر السنوي لسفراء تركيا في العالم، إن «تركيا معرّضة لهجمات إرهابية تشبه تلك التي وقعت في باريس، وتنظيم داعش قد يخطّط لضرب مدن تركية كبرى، وعلى الجميع اتّخاذ الاحتياطات اللازمة». لكن، هل تستطيع الحكومة التركية اتّخاذ الاحتياطات اللازمة في مواجهة «داعش» وغيره، لا سيما وقف تسهيل مرور الجهاديين إلى سورية والعراق، أو توقف تركيا عن تأمين الدعم اللوجيستي لكافة إرهابيي العالم؟
واقع الأمر أنّ السياسة التي اتّبعها أردوغان في سورية والعراق يقف وراءها فكر عقائديّ ناظم لطريقة التعاطي السياسي لدى قادة حزب «العدالة والتنمية» الإخواني في تركيا. هذا الموقف هو الذي يتكشف في زيادة نسب الطلاب الدارسين في صفوف المعاهد الدينية في تركيا منذ قدوم حزب أردوغان إلى السلطة عام 2002 بمقدار أربعين ضعفاً، فضلاً عن موقف أردوغان من قضايا الإنجاب وغيرها.
قد يبدو ما نتحدث عنه شأناً داخلياً تركياً، لكنه يفسّر في جزء منه توجّه الرئيس التركي وأجهزة الأمن التابعة له إلى محاكاة التجربة الباكستانية في أفغانستان. إذ حاول الجيش الباكستاني واستخباراته العسكرية دعم حركة «طالبان» الأفغانية وتنظيم «القاعدة» لأسباب يختلط فيها الدينيّ بالقوميّ والمصلحيّ بالسياسيّ، في ما يتعلق بالصراع الإقليمي مع الهند، ومحاولة إسلام آباد تعبئة الفراغ في أفغانستان، وتكريس نفوذها الحيويّ في هذا البلد المدمّر عبر اللعبة الدينية التكفيرية. ما ساهم في تمدّد التطرّف في المجتمع الباكستاني إلى حدود قصوى، تحوّلت البلاد معها إلى الخزان البشري والنطاق الجغرافي الحيوي الأساسي «للمجاهدين» سواء الأفغان أو الأفغان العرب. وعندما وقعت أحداث الحادي عشر من أيلول، فرضت إدارة بوش الابن على العالم إما الخضوع أو تحمّل تبعات الرفض. واختارت السلطات الباكستانية رفع الراية وأرغمت على الصدام في بعض المناطق مع «القاعدة» و«طالبان». أمر أدّى إلى دخول باكستان في الفوضى، وسطوع نجم «طالبان ـ باكستان» التي أضحت أكثر تشدّداً وخطورة من نظيرتها الأفغانية.
المؤكد أن الحالة الباكستانية تنسحب في جزء منها على الحالة التركية الآن, وأردوغان المندفع لتدمير سورية بكل الوسائل، يدرك أنّ في تراجعه يكمن مقتله الأكيد، حتى لو لم يكن متأكداً من نتائج استمرار مناكفته في الملف السوري. ولعلّ في تغلغل «داعش» في أوساط الشباب التركي دليل واضح على ورطة أردوغان وعجزه عن الاستدارة حتى اللحظة، إذ كشف البروفسور أوميت أوزداغ رئيس مركز «القرن الحادي والعشرين للدراسات»، أن عدد الأتراك الذين انضموا إلى «داعش» و«النصرة» للقتال في سورية «بلغ 12 ألف مقاتل، بينهم عائلات بكاملها هاجرت إلى محافظة الرقة»، معلومات تؤكد ما ذهب إليه أحد استطلاعات الرأي الشهر الماضي، والذي كشف عن «تعاطف 13 في المئة من الأتراك مع تنظيم داعش»، وهو أمر يطرح تساؤلاً حول البيئة الحاضنة التي صارت بيئة عمل واقتصاد وحياة كاملة في المناطق التي تشكل معابر للإرهابيين من كافة أنحاء المعمورة إلى سورية، ومدى صعوبة الانقلاب على هذا النموذج بعد سنوات من النفخ العثماني المركّز في «الحرب المقدّسة».
(البناء)