فرنسا لن تغير أجندتها السورية عبد الله سليمان علي
تشعر دمشق بالراحة الممزوجة بالأسى، فهي أدت واجبها وحذرت من إمكانية تفشي الارهاب جراء سياسة بعض الدول الداعمة له. لكن تحذيراتها لم تلق آذاناً صاغية.
ومع ذلك، من غير المتوقع أن تؤدي عملية «شارلي إيبدو» إلى إزالة الصمم الفرنسي، لأن هناك أصواتاً أخرى ما زالت تُغطي على الصوت القادم من دمشق.
وثمة إجماع على أن فرنسا بعد العملية لن تكون نفسها قبلها، فالصدمة التي أصيبت بها من خلال الاستهداف السهل لقلبها الباريسي تحتاج إلى إجراء تغييرات جذرية لاستيعاب تداعياتها الخطيرة، سواء داخلياً أو خارجياً.
غير أن طبيعة هذه التغييرات وأبعادها، والمدى الذي يمكن أن تصل إليه، تظل عصية على التكهن، لأنها تخضع لجملة معقدة من العوامل الأمنية والسياسية.
ومما لا شك فيه أن الثلاثي كواشي ــ كوليبالي وضع منعطفاً حادّاً أمام العربة الفرنسية سيضطر الساسة الفرنسيون إلى أخذه في الاعتبار لدى دراسة الخيارات المتاحة لمواجهة ما فرضته عملية «شارلي إيبو» من تحديات مستقبلية، لكن هذا لا يعني عدم وجود منعطفات أو إمكانية خلق منعطفات أخرى يمكن أن تلج إليها عربتهم المترنحة.
لذلك، فإنّ الشكوك حول طبيعة الانعطافة الفرنسية المرتقبة هي شكوك مشروعة، طالما أن الأزمة السورية تحولت إلى عقدة متشابكة من المعارك والحروب التي لا يستطيع طرف واحد أن يقرر عدم خوضها.
وقد دأبت فرنسا منذ بداية الأزمة السورية على دعم «المعارضة» والمطالبة بإسقاط النظام السوري، وهي لم تكتف بالدعم السياسي أو الإعلامي، بل انخرطت جهاراً نهاراً في تمويل وتسليح بعض الجماعات التي تقاتل الجيش السوري بذريعة أنها تدعم «الاعتدال».
ويعود أول تصريح علني رسمي بخصوص هذا الدعم إلى منتصف العام 2012، عندما أعلن وزير الخارجية الفرنسي آنذاك لوران فابيوس أن «بلاده تبحث تزويد المسلحين السوريين بأجهزة اتصال لتقويض حكم الرئيس بشار الأسد، وكلما كان تنحيه أسرع كان أفضل» كما قال «إن المعارضة يمكن أن تحقق انتصارا واضحا على الأرض لكن ذلك سيكون من خلال مواجهات عنيفة للغاية».
وسبق ذلك قرار من الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي بإغلاق سفارة بلاده في دمشق، ثم أعقبه اعتراف فرنسي بـ «الائتلاف السوري» المعارض كممثل شرعي للشعب السوري. وكانت فرنسا من أول دول العالم التي انجرت وراء بدعة تعيين سفراء للمعارضة السورية في عاصمتها، حيث استقبل الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند منذر ماخوس في قصر الاليزيه في نهاية العام 2012.
هذا الانخراط الفرنسي جعل من باريس رأس حربة في إشعال الأزمة السورية.
وبغض النظر عن التوجيه الأميركي أو التأثير الخليجي، وخصوصاً القطري، لدفع فرنسا للقيام بهذا الدور المبالغ فيه، فقد كان طبيعياً أن تزداد احتمالات التأثر الفرنسي باللهيب السوري. وكان من قبيل العمى ألا يرى الساسة الفرنسيون شرارات النار، وهي تتطاير باتجاه بلادهم، لاسيما في ضوء الإشارات الكثيرة التي كانت تصل إليهم، وأهمها عملية محمد مراح في مدينة تولوز، والتي مارست السلطات الفرنسية خلالها ضغوطاً على قناة «الجزيرة»، لكي لا تذيع مقطع الفيديو الخاص به، وعملية مهدي نموش فرنسي الجنسية، العائد من سوريا والذي هاجم أحد المتاحف في مدينة بروكسل في بلجيكا، وكذلك الرسائل المصوّرة التي كانت تظهر «جهاديين» غربيين من بينهم فرنسيون، وهم يهددون حكومات وشعوب بلادهم بالقتل والعمليات الانتحارية، وكان آخرها رسالة من متطرف فرنسي دعا فيها المسلمين إلى «قتال فرنسا في داخلها إذا لم يستطيعوا الهجرة إلى الدولة الإسلامية»، وذلك في منتصف كانون الأول الماضي، أي قبل أسابيع فقط من عملية «شارلي إيبدو».
تجاهل الإشارات السابقة، برغم وضوحها وعدم إمكانية تأويلها، يدفع إلى الاعتقاد بأنّ فرنسا ستستمر في سياسة التجاهل والإنكار، ليس لأنها لا تجيد قراءة هذه الإشارات، وإنما لأن لديها أجندة سياسية في المنطقة العربية لا تبالي كثيراً بالثمن الذي يمكن أن يدفعه مواطنوها بسببها.
ومن المتوقع أن تبذل الطبقة الحاكمة في فرنسا ما تستطيع من جهود من أجل استغلال عملية «شارلي إيبدو» وتوظيفها بما يخدم هذه الأجندة، التي لا تخرج بأي حال من الأحوال عن الأجندة الأميركية.
وقد تكون المسيرة المليونية التي شهدتها باريس، وترأسها خمسون من قادة العالم، من بينهم رؤساء دول معروفة بدعم الارهاب وتصديره، ومن أبرزهم رئيس الحكومة الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، أهم مؤشر على أن التوظيف الفرنسي لأحداث باريس الأسبوع الماضي سيتجاهل المنعطف الذي وضعه الثلاثي كواشي ــ كوليبالي، والذي يفترض إعادة فرنسا النظر في سياستها السابقة، وتصحيح الأخطاء التي ارتكبتها، وعوضاً عن ذلك ستدخل إلى منعطف جديد لكن برعاية أميركية إسرائيلية.
ولا يعني هذا أن الثلاثي سيخرج نهائياً من اللعبة، لأن استثمار الدماء التي سفكها سيكون ضرورياً لإضفاء مشروعية شعبية على الانعطافة الفرنسية المرتقبة من خلال استخدام عنوان «مكافحة الارهاب» للتغطية على المشروع الحقيقي الذي يستهدف تقسيم دول المنطقة وإعادة رسم حدودها.
وليس من قبيل المصادفة أن تجري هذه التطورات، بينما حاملة الطائرات الفرنسية «شارل ديغول» تمخر عباب البحر، وهي تشق طريقها إلى الشواطئ الخليجية للمشاركة في القصف الذي يشنه التحالف الدولي ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) منذ حوالي أربعة أشهر.
ولا شك في أن قدوم حاملة الطائرات ينطوي على نية فرنسية واضحة بتوسيع مشاركتها في عمليات التحالف الدولي، علماً أن المشاركة الفرنسية اقتصرت حتى الآن على قصف معاقل «داعش» في الداخل العراقي فقط.
وفي ضوء الشكوك الكثيرة حول فاعلية قصف التحالف الدولي لمعاقل «داعش» سواء في سوريا أو العراق، يغدو من المشروع التساؤل عن طبيعة الهدف الحقيقي الذي يسعى إليه هذا التحالف الذي ينبغي ألا نغفل أنه أضخم من التحالف الذي قام عام 2003 لاحتلال العراق بذريعة تورط قيادته بدعم الإرهاب وامتلاك أسلحة نووية، فهل الهدف هو القضاء على «داعش» أم اتخاذ ذلك ذريعة للوصول إلى أهداف أكبر من شأنها أن تبرر ضخامة التحالف؟
وهل يمكن اعتبار التهديد المبطن الذي أطلقه رئيس الأركان الأميركي مارتن ديمبسي حول «قدرة القوات الأميركية على تنفيذ هجوم على نظام الرئيس السوري بشار الأسد، في حالة صدور الأوامر إليها بذلك من الرئيس الأميركي باراك أوباما مفتاحاً أولياً للتنبؤ بالتحولات التي يمكن أن تطرأ على مهمة التحالف، ونقلها من النقيض إلى النقيض بحسب الإمكانات والظروف؟
(السفير)