بعقل بارد: «إسرائيل» مشتبه به أم ممنوع أيضاً؟: ناصر قنديل
– يعرف الذين عاصروا وتابعوا هذا النوع من العمليات الأمنية التي استهدفت فرنسا وتتمّتها المفترضة في جبل محسن، كمثل أحداث الحادي عشر من أيلول كمثل عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أنها تحتاج عملاً لوجستياً يستحيل إنجازه في أيام، كما يعرفون أنه في كثير من الحالات يحتاج المنفذون جيشاً من المعاونين يبدأ من الاستطلاع والمعلومات والهواتف القابلة للإتلاف، ومراكز الإيواء وسيارات وبدائلها في الطريق، وإذا تحوّلت العملية إلى عملية مركبة تصبح الحاجة مضاعفة إنْ لم يكن أكثر، ودرجة الشعور بالراحة من المنفذين توحي بالثقة بأنّ كلّ شيء متوافر، وأنّ الخطة لا تستند إلى قرار بأن ينتحر المنفذون لتصير درجة الحيطة أقلّ ومستوى الحاجات أعلى.
– يعرف المتابعون أيضاً أنه عندما تكون العملية نفذت بنجاح وتكون بداية لمجموعة من التطورات تؤشر إلى كونها بداية مرحلة جديدة، تنهي ما قبلها وتبدأ بسمات مختلفة، تصبح من نوع عمليات ممنوع الفشل فيها، وحجم ما يرصد لضمان نجاحها أكبر من الخيال، فلا يمكن الاكتفاء بالتفسير الظاهري الذي يضع الحدث في دائرة الظروف المكانية والزمانية وطبيعة ما يبدو أسبابه وأهدافه المباشرة، بل رؤية التداعيات والنتائج والمرحلة التي يبشر بها الحدث للحكم على من سيكون المستفيد ومن سيدفع الثمن، وتحديد الأرباح والخسائر على ضفاف اللاعبين.
– كون المنفذين هم من الجماعات الإسلامية المتشدّدة التي تعلن مناصبة اليهود والمسيحيين العداء كان يشكل في الماضي سبباً سريعاً ليخرج علينا الكثيرون بالردّ المستعجل، حتى بهذه تتهمون «إسرائيل»؟ أيُعقل أن تحرّك «إسرائيل» مجموعات إسلامية، فهل أصبح القيد على مناقشة الفرضية «الإسرائيلية» أقلّ بعدما ظهر أنّ اللاعبين المنتسبين إلى فكر وتنظيم «القاعدة» يتحاوران لتوحيد الصفوف في العمليات الخارجية برعاية أيمن الظواهري، وأنه من يقرّر نسبة العمل لأيّ من الفريقين، وبعدما بدا علناً أنّ «إسرائيل» تعلن علاقتها الرسمية بالفرع الرسمي لتنظيم «القاعدة» في بلاد الشام الذي تمثله جبهة «النصرة»، وتعلن أنها تراها فريقاً يمكن التعاون معه وأنه يؤتمن جانبه على أمن «إسرائيل»، وإنْ جاءت عمليات التغطية الجوية «الإسرائيلية» لعمليات جبهة «النصرة» في جبهة الجولان وبعدها عمليات الاستطلاع الجوي لحركة الجيش اللبناني وتحركات حزب الله، كمؤشرات على التعاون الأمني، فهل يتسامح المستعجلون مع مبدأ سماع فرضية اعتبار «إسرائيل» مشتبهاً به؟
– من المسلم به أنّ «إسرائيل» تعيش منذ عام 2000 تاريخ انسحابها من جنوب لبنان مرغمة تجرجر أذيال الهزيمة، وأنّ أنصارها في الولايات المتحدة وما عرف بالصهيونية المسيحية يتحدثون علناً عقائدياً وسياسياً عن ضرورة الاستعداد للقتال في الشرق الأوسط، سواء بدافع ديني اسمه ضرورة تمهيد شروط ظهور المسيح المخلص بإعادة مجد «مملكة بني إسرائيل»، أو بدافع عقائدي بالاستعداد لمعركة هرمجيدون، أو في السياسة بربط زعامة القرن الواحد والعشرين بالسيطرة على منابع وممرات الطاقة في الشرق الأوسط، أو بدافع استراتيجي وعنوانه الشفاء من عقدة فيتنام، وقد جمع كلّ ذلك ريتشارد بيرل الذي صار مسؤول السياسات في البنتاغون في عهد جورج دبليو بوش، بقوله إنّ أميركا تحتاج بيرل هاربر أخرى يوم هاجمها الانتحاريون اليابانيون حتى أعلنت مشاركتها في الحرب العالمية الثانية وخرجت بسبب جرحها البليغ إلى ما بعد المحيطات، فلماذا بعدما صارت العلاقة معلنة بين «إسرائيل» وتنظيم «القاعدة»، يجب استبعاد «إسرائيل» من فرضيات أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، الـ»بيرل هاربر الأخرى» وقد جلبت حروباً ليست لمصلحة أميركا بقدر ما هي لمصلحة «إسرائيل»، كما وصف المرشح الرئاسي الجمهوري المحافظ باتريك بوكانون حرب العراق في مقالته الشهيرة في آذار 2003 في مجلة المحافظين؟
– إذا كانت حروب أفغانستان والعراق قد فشلت في تحقيق الأهداف المنشودة وصار المطلوب عملية تخلط الأوراق، وتفتح الممرات اللازمة نحو الفتنة المذهبية وحرب الشيعة والسنة وتمنح القرار 1559 قوة دفع لا يملكها ويصل الأمر حدّ الرهان على سقوط سورية بقوة العصف الناتج من تفجير خطوط الغضب، و«إسرائيل» لم تنف لا علاقتها بالقرار ولا دورها في متابعة تداعيات اغتيال الرئيس الحريري، وصولاً إلى ما تمتلئ به أوراق لجان التحقيق الدولية بالتقارير «الإسرائيلية»، من الاتهام الأول الموجّه نحو سورية وصولاً للاتهام المركزي الذي تدور عليه المحكمة الدولية، والصدفة السعيدة لـ«إسرائيل» بأن تكون المقاومة هي المتهم الذي يحاكم في الجريمة، وصديق المحكمة السري الذي زوّدها بالداتا أو جهز لها الداتا ممنوع الكشف عن هويته، فلماذا يكون وضع «إسرائيل» بين المشتبه بهم ممنوعاً؟ وهل ثمة عاقل مستعدّ لتذكر الشريط الذي عرضه قائد المقاومة عن طيران الاستطلاع «الإسرائيلي» وهو يراقب موكب الرئيس الحريري؟
– في عملية باريس كما في نيويورك جرى اختيار الهدف بعناية رمزية ليست بعيدة أيضاً عن تجمّعات اليهود، سواء بإبعادهم عن الاستهداف كما قيل في نيويورك، أو بجعلهم الهدف في باريس، لكن في الحالتين رمزية العظمة الأميركية التي يجسّدها برجا التجارة، أو القيمة الفرنسية التي تمثلها حرية التعبير، وفي الحالتين إدراك حجم ردود الفعل واتجاهها العدائي نحو المسلمين وذوي الأصول الإسلامية، في حالة أميركا نحو الغزو الخارجي وفي حالة فرنسا نحو الغزوات الداخلية، ولذلك جرى اختيار الأداة بعناية أيضاً، فالغالبية السعودية في منفذي هجمات أميركا لرمزية الإسلام والمقدسات، وفي حالة فرنسا الجزائريون لرمزية الجاليات المهاجرة، والزمن زمن المأزق الوجودي لـ«إسرائيل» بعد فشل «الربيع العربي» في تقديم شبكة الأمان اللازمة قبيل الانسحاب الأميركي من أفغانستان، واتجاه الغرب بقيادة أميركية نحو منطق التسويات في الشرق الأوسط، وهي تسويات ليست «إسرائيل» جاهزة لها ولن تتمّ إلا على حسابها، فيصير ذهاب العالم إلى الحروب الدينية بدلاً من مواجهة الإرهاب بجبهة إنسانية متحدة غرضاً «إسرائيلياً» صافياً، حروب دينية تستدعي تنظيم ردود الأفعال على الضفاف الإسلامية واليهودية والمسيحية بالغضب المتبادل، وهذا لا يبدو تحت السيطرة، ولا تبدو جهة قادرة على تخديمه وتوظيفه وقيادته إلا «إسرائيل»، وهي الجهة الوحيدة التي تملك صهيونيتها اليهودية وصهيونيتها المسيحية وصهيونيتها الإسلامية، فهل يمنع إدراجها بين المشتبه بهم؟
– في جبل محسن تفجير انتحاريين ليسا ضروريين لوجستياً بقدر ضرورة توسيع دائرة الحقد في جبل محسن على حي المنكوبين في طرابلس، وصدفة عناية اختيار الهدف والأداة على الطريقة الباريسية، فلو كان منفذا عملية باريس من جنسية صومالية مثلاً ومنفذا عملية جبل محسن من جنسية يمنية هل كان الأمر بذات المعنى؟ أليس ذلك هو الجزء الأهمّ من العمليتين؟ وربما كان متاحاً تنفيذ للعمليتين بعبوات لا تترك بصمات بشرية ذات صفة سوسيولوجية تنكأ جراحات وتفتح خطوط تماس، لكن يبدو هذا مطلوباً أكثر من العمليتين بنفسيهما، ولماذا عندما أقلع الحوار بين تيار المستقبل وحزب الله وجاءت الإشارات الإيجابية لتطوّره وتقدّمه وجدّيته، تأتي العملية في جبل محسن وما قد يليها بذات الطريقة لبلوغ التوتر الذي يعيد العبث في بيئة تيار المستقبل وشقها لحساب المنظمات الإرهابية، لاستخدامها في حرب بين السنة والشيعة، تتآكل «إسرائيل» إذا لم تندلع.
– هل لا يزال ممنوعاً اتهام «إسرائيل» أو وضعها على الأقلّ في لائحة المتشبه بهم؟
(البناء)