تصفية المعاهدة مع سورية
غالب قنديل
نفذت قوى 14 آذار من خلال أدوات السلطة اللبنانية التي أمسكتها بقوة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وبالتدريج انقلابا شاملا على مفهوم العلاقات المميزة الذي مثل ركنا مؤسسا في اتفاق الطائف بنيت عليه منظومة من الاتفاقات وأدوات التنسيق الثنائي وربطت به هوية لبنان العربية التي حسمت بنص دستوري بعدما شكلت محور نزاع سياسي وفكري وثقافي لعقود طويلة وممتدة يمكن التأريخ لها منذ عهد المتصرفية في ظل الاحتلال العثماني .
أولا منذ الإطاحة بحكومة الرئيس عمر كرامي سعت هذه القوى لتقويض العلاقات اللبنانية السورية بعد انقلابها السياسي وفي سياق حركتها المعلنة لاستثمار اغتيال الحريري بقيادة جيفري فيلتمان وبدعم سعودي وهي لم تجرؤ على خوض معركة مكشوفة لتفكيك المعاهدة اللبنانية السورية وما انبثق عنها من اتفاقات وهيئات تنسيق وقواعد للتعاون بل عملت عبر آلة تعطيل لم تتوقف عن العمل فلم يجرؤ أي كان على التقدم باقتراح قانون إلى مجلس النواب لسحب المصادقة على المعاهدة والاتفاقات الثنائية التي كانت حكومات رفيق الحريري هي الجهة التي مثلت الجانب اللبناني في توقيع معظمها بملء الإرادة والثقة ولكن تم وقف جميع ادوات التنسيق السوري اللبناني وشلها كليا باستثناء الدور الذي حافظ عليه امين عام المجلس الأعلى اللبناني السوري نصري خوري وما يقوم به السفير السوري في لبنان على عبد الكريم علي من جهود متواصلة ومركزة بلا ضوضاء وباعتماد لغة رفيعة ومهذبة في التصدي لفجور متواصل إلى جانب ما يحرص على حمايته من هوامش التواصل الثنائي اللواء عباس ابراهيم مدير عام الأمن العام اللبناني.
المفارقة السوريالية هي ان تبادل السفراء بين سورية ولبنان كان يعد في سياق السجالات اللبنانية تلبية لمطلب تلك القوى ورعاتها الخارجيين في الغرب والخليج الذين أنتجوا مفهوم الوصاية السورية بالتزامن مع رضوخهم لمعادلات الطائف لاستخدامه احتياطيا في الاعتراض الدائم والمستمر على تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين وقد حقنوا به الأدوات السياسية والإعلامية التابعة التي يديرونها في لبنان وهم في الواقع دفعوا تلك الأدوات إلى تحركات تصاعدية منذ بروز التصادم والاهتزاز في العلاقة بين القيادة السورية والحلف الغربي الخليجي الذي تتزعمه الولايات المتحدة على إيقاع الصراع العربي الصهيوني في المنطقة وفي ظل رفض سورية للشروط الإسرائيلية الأميركية ودعمها المتواصل للمقاومة والجيش اللبنانيين كمنظومة للدفاع الوطني ولحماية السلم الأهلي وما اعتبر تعزيزا لمكانة سورية والمقاومة في العام ألفين بعد إجبار إسرائيل على الخروج دون قيد اوشرط من لبنان حيث كان الرد الاستراتيجي في اغتيال الحريري واحتلال العراق ومن ثم في عدوان تموز.
ثانيا شكلت بداية العدوان على سورية نقطة انطلاق متزامنة في تصعيد السعي لنسف مفهوم العلاقات المميزة وبالضبط عبر خطة تحويل لبنان إلى منصة سياسية وإعلامية وعسكرية في العدوان على سورية واتخذ شعار النأي الذي رفعته حكومة الرئيس نجييب ميقاتي تغطية لتعطيل التنسيق اللبناني السوري في مكافحة العصابات الإرهابية الناشطة على الحدود الشمالية والبقاعية في حضن تيار المستقبل ناهيك عن قيام السلطات اللبنانية بتقديم التغطية السياسية والقانونية لجميع وجوه تورط قوى 14 آذار في الحرب على سورية خلافا لأحكام المعاهدة والاتفاقات الثنائية التي عطلت بالقوة منذ 14 شباط 2005 كما عطلت احكام القوانين اللبنانية التي تعاقب على الإساءة إلى العلاقة بين البلدين ومنها على سبيل المثال ما ورد في قانوني المطبوعات والإعلام المرئي والمسموع.
مما يلفت الانتباه ان القوى الوطنية اللبنانية تتحصن في مساحة الاعتراض الصامت والتصدي السلبي لهذا السلوك المفضوح على الرغم من كون التشابكات اللبنانية السورية وما ترتبه من مصالح لبنانية ملحة تقتضي تعميق العلاقات الثنائية اللبنانية السورية التي تصاعدت أهميتها وتوسعت مساحتها على جميع المستويات منذ العدوان على سورية وظهور انعكاساته ونتائجه في لبنان اقتصاديا وديمغرافيا وأمنيا.
قياسا إلى لحظة توقيع المعاهدة اللبنانية السورية يمكن القول إننا ذاهبون نحو توسع مساحات الشراكة والاندماج الإقليمي الاقتصادي والسكاني والأمني وبالتالي السياسي بين سورية ولبنان ومن الحماقة والغباء ملاقاة التحولات الجارية بإدارة الظهر وبعقلية القطيعة ورفض التنسيق بين الحكومتين ولعله ينطبق في وصف هذا الأسلوب القول المأثور إن الحقد هو أسوأ موجه في السياسة مع اعتبارنا لكون العديد من القوى والكتل والشخصيات السياسية اللبنانية من الطراز الرغوي اللزج القابل للانقلاب بين الشيء وضده والتكيف والرضوخ فألد اعداء سورية اليوم هم الذين استقووا بدورها وبوجودها قبل عشرين عاما على جميع خصومهم المحليين وما تزال على أدوارهم وتاريخهم بصمات سورية نافرة لم تدخل عالم النسيان وهم ينتظرون إشارة السماح الأميركية والسعودية لينقلبوا بهلوانيا مرة اخرى فتندلع أشعارهم الغزلية بدمشق وبالرئيس بشار الأسد.
ثالثا كيف يمكن الذهاب إلى الانعزال عن سورية وعدم التنسيق معها والعمل ضد قدر الجغرافية الذي يجعل منها المتنفس الوحيد والممر الحصري إلى الجوار العربي ؟ وكيف يمكن التغاضي عن حقيقة وجود اكثر من مليون نازح سوري في لبنان يبدو انهم حقيقة مستمرة لسنوات قادمة ؟ أوعن حقيقة التهديد المشترك الذي يمثله الإرهاب التكفيري انطلاقا من أوكاره الحدودية؟ وكيف يمكن تجاوز حقيقة الدور المحوري لحزب الله في الميدان السوري وبعدما تطورت منظومة قتالية لبنانية سورية مشتركة تتصدى لعصابات الإرهاب التكفيري وهي ذاتها تمثل قوة دفاع إقليمية متقدمة في التصدي للعدو الصهيوني؟.
خلافا لمشيئة الانعزاليين الجدد باتت المصائر اللبنانية والسورية اوثق ارتباطا وتشابكا من أي وقت مضى وقد باتت وحدة الحياة اللبنانية السورية حقيقة تفرض نفسها بقوة الواقع العنيد أكثر من السابق وليس فحسب نتيجة المصلحة المشتركة في مجابهة الخطر الصهيوني المستمر الذي يتربص بلبنان وسورية معا.
على الوطنيين والقوميين في لبنان ان يجيبوا على سؤال : إلى متى يجري التعايش مع ناكري الواقع وجوقة الدجالين الساعين إلى التحرك ضد التاريخ وضد منطق المستقبل وهم ليسوا في سلوكهم سوى الإحياء المبتذل للانعزالية والعنصرية التي أنتجها اليمين اللبناني ضد سورية وفلسطين والعروبة منذ عهد الانتداب الفرنسي ومن يملك القدرة بينهم فليقل لنا كيف يمكن العمل وفق برامج سياسية وجماهرية في لبنان دون ان تكون للعلاقة اللبنانية السورية مكانة راجحة في جدول الأعمال ؟!.