السعودية: مرض الملك يشعل صراع الأجنحة فؤاد إبراهيم
ليس هناك من هو أقدر على فهم «آل سعود» من «آل سعود» أنفسهم… ثمة تقاليد شديدة الخصوصية والغرابة تحكم العلاقات بين أعضاء الأسرة المالكة. فهم في الرخاء يتقنون فن «التكاذب»، وفي الشدّة يحترفون «تبادل الرسائل» غير المباشرة. يجمعهم الخوف على المصير المشترك، ويفرّقهم حب السلطة بكل أشكالها… إنها لعبة «الخصوصية» التي تدار وسط عائلة يُعَد الانتقال السلس للسلطة فيها «استثناءً». مرض الملك ليس خبراً عادياً في مملكة الصمت، لكونه يبطن أسرار النزاع الطويل والمتشعّب على السلطة بين الأجنحة الرئيسة
لم تمض دقائق قليلة على إعلان نبأ إدخال ملك السعودية، عبد الله بن عبد العزيز المستشفى (لإجراء بعض الفحوصات الطبيّة) في 31 كانون الأول الماضي، حتى اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي، و«تويتر» على وجه الخصوص بأوسمة (هاشتاغات) خاصة بأخبار صحة الملك. وبدأ صندوق «مجتهد» يفرغ ما فيه من «أسرار» و«تمنيّات» و«مواقف» و«فبركات»، لتندلع حرب «التكهنات» في العالم الافتراضي حول مصير الملك.
ليست المرّة الأولى التي تندلع فيها حرب الشائعات ويكون عنوانها (موت الملك). في نهاية آذار 2014 سرت شائعات مماثلة عن تنحي الملك عن العرش وتولي سلمان مكانه بسبب عجزه عن أداء سلطاته، فصرح «مصدر مسؤول» من جماعة الملك في أول نيسان بنفي التنحي، ولمّح إلى مصدر الشائعة بردّه على المتذرعين ببند عجز الملك عن أداء سلطاته (نظام هيئة البيعة): «ولكنه ما زال قادراً على إدارة دفة الحكم بكل كفاءة واقتدار».
نشير إلى أن المادة (11) من نظام الهيئة ينصّ على أنه: في حالة توافر القناعة لدى الهيئة بعدم قدرة الملك على ممارسة سلطاته لأسباب صحية تقوم الهيئة بتكليف لجنة طبية بإعداد تقرير طبي، فإذا ثبت عدم قدرة الملك على ممارسة سلطاته وأنها حالة مؤقتة، تقوم الهيئة بإعداد محضر إثبات لذلك، وتنتقل سلطات الملك إلى ولي العهد. أما إذا أثبت التقرير الطبي أن عدم قدرة الملك على ممارسة سلطاته تعد حالة دائمة، عندئذ تدعو الهيئة لمبايعة ولي العهد ملكاً على البلاد.
ومن الواضح أن الجناح السديري يتوسّل هذه المادة لإرغام جناح الملك عبد الله على «التسويّة»، على أساس أن نظام هيئة البيعة هو المرجع الذي يحظى بإجماع داخل العائلة المالكة وليس أوامر الملك. مع أن تفويض هيئة البيعة يسري مفعوله بعد موت الملك وولي عهده معاً. وكان النظام قد صدر في حياة الأمير سلطان، ولي العهد السابق، الذي توفي في تشرين الأول 2011، وبناءً عليه فإن موته منح الملك فرصة ممارسة صلاحياته وفق النظام الأساسي للحكم الصادر في آذار 1992، إذ عيّن خلفاً له في منصب ولي عهد لأكثر من مرة (الأمير نايف في تشرين الأول 2011)، وبعد موت الأخير في حزيران 2012 أعلن تعيين الأمير سلمان مكانه على الفور. وكلاهما من الجناح السديري، ولم يجد الأخير في قرار تعيين الملك لهما مخالفة لنظام هيئة البيعة، بينما يصرّ السديريون على اعتماد هذا النظام كمرجعية في المناكفة مع جناح الملك. للإشارة فحسب، إن التصادم بين نظام هيئة البيعة والأمر الملكي الخاص بتعيين وليّ وليّ عهد، أن الأول في حال مرض الملك وولي العهد بصورة مؤقتة تنتقل السلطة إلى الهيئة، وفي الثاني لمقرن. وهذا يفسّر إصرار الجناح السديري على أن تكون الفحوصات مقتصرة على القدرات الذهنية للملك لإثبات قدرته أو عدمها على أداء سلطاته فيتقرر بقاؤه أو تنحيته.
على أي حال، إن بيان الديوان الملكي الصادر في 2 كانون الثاني الحالي قطع الطريق على محاولة الجناح السديري استغلال مرض الملك للضغط من أجل «التهويل» على جناحه وانتزاع مكاسب. إنها المرّة الأولى التي يعلن فيها الديوان الملكي بوضوح وبسرعة طبيعة مرض الملك والعلاج الذي يخضع له وحالته الصحية، ونصّ بيان الديوان على «وجود التهاب رئوي استدعى وضع أنبوب مساعد على التنفس بشكل مؤقت، وقد تكلل هذا الإجراء ولله الحمد والمنة بالاستقرار والنجاح». لم يكن جناح الملك معنيّاً بـ«الشفافية» كما تحدّث البيان، لأن الملك ظهر في شباط من العام المنصرم وفي لقاء مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، وكان الأنبوب المساعد على التنفس موضوعاً وظاهراً، ولم يعلن ذلك الأمر مسبقاً. في الواقع، إن بيان الديوان الملكي حول مرض الملك وعلاجه أسقط ورقة أخرى من هيئة البيعة والمتعلقة بتشكيل لجنة طبية تقوم بمهمة تقويم الحالة الصحية للملك ويتقرر في ضوئه ما إذا كان قادراً على أداء سلطاته. وبناءً عليه، إن الإصرار على نشر أخبار عن الوضع الصحي للملك قد يكون تدبيراً استباقياً، لأن في الجناح السديري من سيتعمّد بث أخبار أخرى، فأراد البيان وضع حدّ للشائعات، والأهم إيصال رسالة للجناح السديري المنافس، بأن مرض الملك لا يستدعي التنحي وأن حالته مستقرة.
ما يلفت أن حرب الشائعات هذه المرة كشفت في شكلها شبه العلني عن مستوى مرتفع من الصراع المحتدم بين جناح الملك عبد الله والجناح السديري. وبات معروفاً أن من يتحدّث عن تنحي الملك عن السلطة أو حتى موته هم من المحسوبين على الجناح السديري، وفي المقابل إنّ من ينبري لنفي كل ذلك هم من صقور جناح الملك، والهدف واضح: استدراج تسوية منصفة للسديريين تفادياً للمجهول.
وفي الحديث عن سيناريوات انتقال السلطة في السعودية، أمكن القول بأنها تبدو محدودة ومعروفة، وأسوأها كان في عهد الملك سعود حين انقسمت العائلة المالكة إلى أجنحة ولم تنتقل السلطة إلا باختلال القوة لمصلحة جناح فيصل وتدخّل أطراف داخلية ودولية (أميركية بدرجة أساسية)، وتطلّب حسم الصراع دخول علماء الدين في النزاع لمصلحة فيصل، الذي تربطه وشيجة قرابة مع «آل الشيخ» من جهة أمه.
أما في بقية العهود، فإن تقليد التنحي عن السلطة غير وارد، فالملك فهد (اعتلى العرش سنة 1982) واصل حكم البلاد لنحو عقد من الزمن (1996 ـ 2005) إثر إصابته بجلطة دماغية أفقدته القدرة العقلية والبدنية على أداء مهمات الحكم، ومع ذلك بقي ملكاً حتى آخر يوم من حياته.
في ظروف مثل التي تمرّ بها الأوضاع الصحيّة للملك والخطة المحكمة التي بدأها لناحية تهيئة الظروف المواتية لوصول ابنه متعب إلى العرش، وتعيين عدد آخر من أبنائه في مناصب حساسة (أمير مكة، أمير الرياض، نائب وزير الخارجية…)، وهواجس جناح الملك من خطّة مبيّتة لدى الجناح السديري في حال وفاة الملك تستهدف تخريب كل ما قام به من تغييرات منذ توليه العرش حتى الآن هناك ثلاث سيناريوات:
ـ الأول: بقاء الملك في منصبه حتى النهاية وسير عملية انتقال السلطة بحسب التقليد السائد. ولكن هذا السيناريو لا يضمن اندراج الأمير متعب في خط الوراثة بعد الأمير مقرن، وليّ وليّ العهد الحالي، إذ سيكون ذلك ضمن صلاحيات الملك القادم (وهنا سلمان) الذي يعيّن من يراه في منصب النائب الثاني، ومن المؤكّد أنه لن يختار شخصية من جناح عبد الله، وقد يكون أي شخص آخر من الجناح السديري.
ـ تنحي الملك عن العرش بضمان تعيين ابنه متعب في منصب وليّ وليّ العهد، وبنفس البنود الواردة في قرار تعيين مقرن، إذ يكون قراراً ملزماً للملك القادم ولا يجوز له تغييره. يعد هذا السيناريو مقبولاً وإنقاذياً، ولكن ما يخشاه الجناح السديري في حال إعلان مقرن ملكاً على البلاد ومتعب ولياً للعهد أن تكون حظوظ السديريين شبه معدومة.
ـ اعتماد الطريقة القطرية بتنحي الملك وولي عهده وتعيين مقرن ملكاً ومتعب وليّ العهد ومحمد بن نايف أو أي شخصية أخرى من الجناح السديري في منصب النائب الثاني. وأما الذين ينتظرون نقل السلطة من الملك إلى سلمان دون ثمن، فسينتظرون طويلاً. وكذلك، أولئك الذين يعوّلون على هيئة البيعة الذي أراد منها الملك حين تشكيلها مجرد تأجيل استحقاق تعيين نائب ثانٍ له، ولكن بعد صفقة تقاسم السلطة بينه وبين نايف جرى تجاوز الهيئة وصدر أمر بتعيين الأخير نائباً ثانياً ثم وليّ عهد دون عودة إلى الهيئة تلك.
من المؤكّد، أن الجناح السديري يريد التعجيل بانتقال السلطة قبل أن يستعيد الملك عافيته فتكون فرصة لإعفاءات وتعيينات أخرى. ولعل أكثر ما يخيف الجناح السديري من إقدام الملك عبد الله على إصدار أوامر مباغتة تفضي إلى إخراجه من معادلة السلطة نهائياً، فيستكمل ما بدأه منذ سنوات حين عمل على تقويض الجناح السديري عبر خطة متقنة من الإعفاءات والتعيينات. ولذلك يواصل السديريون تقديم عروض لجناح الملك للتسوية، في الوقت الذي يصرّ فيه على إجراء فحوص طبيّة للملك حتى يبنى على الشيء مقتضاه.
تداعيات موت الملك:
ـ تصدّع الأسرة المالكة: فرض الملك عبد الله نفسه كشخصية حاسمة وطاغية داخل العائلة المالكة، ولم يكن هناك من الأمراء من يمكنه مجاراته، دع عنك مصادمته، وقد أفاد من هذه المكانة الفريدة في إحداث تغييرات جوهرية وجبّارة في تركيبة السلطة بطريقة غير مسبوقة، أنهكت خصمه التاريخي الممثل في الجناح السديري الذي فقد إلى جانب موت أقطابه الكبار فرصه الثابتة في احتكار العرش إلى أجل غير مسمى. وهنا تكمن الأزمة في مرحلة ما بعد الملك عبد الله، إذ صنع مشكلة لمن يخلفه، لأن هناك أمراء كثراً متذمرين إزاء سياسات الملك عبد الله في التعيين والإعفاء، وأن ما يحول دون الإفصاح عن ذلك هو شخصية الملك نفسه وما يتمتع به من رمزية داخل أسرة «آل سعود» ووسط شريحة وازنة من الناس. خلاصة الأمر، أن ثمة نزاعاً محتملاً على السلطة بين الأجنحة سيندلع بعد موت الملك، وقد تكون له انعكاسات على تماسك ووحدة العائلة المالكة.
ـ التحدي الاقتصادي: نجح الملك عبد الله جزئياً في احتواء مظاهر السخط الشعبي على خلفية المصاعب المعيشية التي عاناها قطاع واسع من المواطنين، وقد خفّفت التقديمات الاجتماعية وبرامج الابتعاث من الاحتقانات الشعبية إلى حد ما، برغم من انخفاضها كثيراً عن سقف التوقعات (الاقتصادية والسياسية بدرجة أسياسية) التي كانت الغالبية العظمى من المواطنين قد وضعته حين تولى الملك عبد العرش في آب 2005. وفي ظل تراجع مداخيل النفط، وقرار الدولة رفع الدعم عن عدد من المواد الأساسية، ولا سيما الوقود، ووقف العلاوات، وفرض ضرائب عالية على الكهرباء والماء والهاتف، ووقف مشاريع تنموية تتعلق بالبنية التحتية والخدمات، فإن من المرجّح عودة مظاهر التمرّد الاجتماعي بأشكال مختلفة، بما في ذلك التسيّب بالمعنى الشامل للكلمة، وتزايد وتيرة انتشار الفساد في المؤسسات الحكومية، وتباطؤ معدلات النمو والانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية المصاحبة بها.
ـ الانكشاف الأمني: بالنظر إلى غياب القيادة الكاريزمية وتداعياته، والمصاعب الاقتصادية التي تشهدها البلاد والمرشّحة للتفاقم في المرحلة المقبلة، وكذلك الأوضاع الإقليمية غير المستقرة وخطر داعش المتزايد على الداخل السعودي، فإن ثمة خطراً أمنياً يتهدّد المملكة واستقرارها السياسي.
الأخبار