قصر بعبدا: عهد الانتظار.. والصيانة! ملاك عقيل
مع حلول 24 ايار 2015، يكون قد انقضى عام كامل على الفراغ الرئاسي. أقصى السيناريوهات المتفائلة تتحدّث عن شغور لن تهزّه حوارات مصطنعة ورهانات على تغيير في مزاج المتصارعين الاقليميين والدوليين، يدفعهم الى التنبّه الى ان الجمهورية الصغيرة باتت بلا رأس.
قصر بعبدا يفتقد الى سيّده وحركة الموفدين الدوليين وزيارات وزراء ونواب وسياسيين وامنيين، فيما غابت عنه احتفالات عيد الاستقلال والميلاد ونهاية العام، باستثناء حفل الاستقبال الذي أقامه المدير العام لرئاسة الجمهورية الدكتور انطوان شقير للعاملين في القصر. في الخارج التطنيش سيّد الموقف. في الداخل القوى السياسية أدمنت ملء الفراغ بحركات الحوار البهلوانية.
اتّصلت عدّة جمعيات اهلية بالمدير العام لرئاسة الجمهورية عارضة رغبتها بإضاءة شجرة الميلاد، لكن الدكتور أنطوان شقير، وبتنسيق مباشر مع رئيس الحكومة تمام سلام، اتّخذ القرار بعدم اعتماد اي مظاهر احتفالية، خصوصا ان لهذه الخطوة رمزيتها كون العادة جرت ان سيّدة القصر هي التي تتولّى إضاءة شجرة الميلاد الى جانب الرئيس، فاقتصرت الزينة على شجرة صغيرة امام مكتب المدير العام.
قصر بعبدا الذي يفتقد الى ضجة الرئيس وفريق عمله، لا تسكنه الاشباح. منذ نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان أبقي على نحو مئة موظف، بين اجراء ومتعاقدين وموظفين، يداومون يوميا ويعملون تحت إشراف المدير العام مباشرة، وتتوزّع مهامهم بين فرع الامانة العامة، لا سيما مكتب الاعلام ومكتب المراجعات ومكتب الرئيس، وفرع المراسم والعلاقات العامة والشؤون الاقتصادية والتربوية والاجتماعية.
وبانتظار قدوم «فخامته» تُشغِل المديرية العامة لرئاسة الجمهورية نفسها حاليا بعدّة مهام منها: متابعة اعمال مجلس الوزراء، واعمال الصيانة في القصر، وتنظيم المعاملات الادارية افقيا وعموديا، وتحديث نظم المعلوماتية، وإجراء دورات تدريبية لجميع الفروع والاقسام في المديرية.
وفق موجبات الدستور، بغياب رئيس الجمهورية، تراجع المديرية العامة وتنسّق مع رئاسة الحكومة في كافة التفاصيل التي توجب حصول هذا التنسيق.
القصر إذا ليس خاويا تماما، فالشغل الإداري والتقني «ماشي» حتى لو طال موسم الفراغ. ومع او من دون رئيس، فإن لواء الحرس الجمهوري مكلّف تأمين الحراسة لأمن القصر في بعبدا وبيت الدين. لكن ومنذ بداية أحداث عرسال في آب، تمّ توسيع مهام لواء الحرس الجمهوري، حيث تمّت الاستعانة بضباطه وعناصره للانتشار في المناطق المحاذية للقصر وصولا الى إقامة الحواجز على تخوم الضاحية الجنوبية.
هذا ما سبق ان فعله قائد الجيش السابق ميشال سليمان بعد نهاية ولاية الرئيس اميل لحود وتولي حكومة الرئيس فؤاد السنيورة صلاحيات الرئاسة الاولى، لكن الاحداث الامنية الخطيرة التي اعقبت أحداث عرسال ضاعفت أكثر من مهام لواء الحرس الجمهوري.
في داخل القصر، كما في خارجه، ثمّة من يلوّح بفراغ طويل العمر، قد يحوّل الستاتيكو القائم في القصر الى واقع مفتوح على التمديد. إنعدام حركة الزوار صعودا صوب مكتب «فخامة الرئيس» قد يستمر لأشهر إضافية. هو الفراغ الذي لا أحد من المعنيين المباشرين بمطابخ عواصم العالم قادر على وضع حدّ أقصى لتاريخ انتهاء صلاحيته.
في كل مرّة كان الضالعون في الحبكات الرئاسية يشيرون الى ان قصر بعبدا قد يستفيد، من المرات النادرة، من فرصة ذهبية بلبننة استحقاقه، في تكرار لتجربة انتخابات 1970 التي قيل انها شهدت الحدّ الادنى من التدخل الخارجي، كانت بعض القوى السياسية تهلوس فعلا بإمكانية انتخاب رئيس بهمّة التصويت «الديموقراطي»! لكنه ليس زمن لا الياس سركيس ولا سليمان فرنجية.. ولا حتى زمن الوصايات عن قرب او عن بعد.
المؤكّد حتى اليوم ان لا الحوار الذي دشّن لتوّه بين وفديّ «حزب الله» و «تيار المستقبل»، ولا الحوار المتعثر بين العماد ميشال عون وسمير جعجع، قد يفضيان الى إحداث خرق في جدار التأزّم الرئاسي. صاحب الفخامة المقبل، بكل بساطة، هو نتاج تقاطعات دولية واقليمية لم ينجح «إلهام» الرئيس نبيه بري في تحويلها الى حقيقة ملموسة وقريبة الأجل، كما اوحى في الاسابيع الماضية.
وفق المادة 62 من الدستور تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء في حال خلو سدّة الرئاسة لاي علّة. «العلّة» باتت مفهومة ومعروفة، لذلك ومنذ نحو 220 يوما ثمّة حكومة تعمل وبخار «الفخامة» يسيطر على رؤوس أعضائها.
قاطنو السرايا، وباستثناء نداءات الاستغاثة من جانب الرئيس سلام المطالِب الدائم بوضع حدّ لخواء الجمهورية، لا يبدون اي انزعاج من فراغ يثبّتهم على كراسيهم الوزارية ويمنحهم فيتو التعطيل في كبرى الملفات واصغرها.
لكن فراغ ما بعد ميشال سليمان لا يشبه بشيء فراغ ما بعد اميل لحود. في الحالة الثانية أقصى ما توصّل اليه رعاة التسوية هو اتفاق الدوحة الذي اقتصرت مفاعيله على «تنصيب» سليمان رئيسا للجمهورية، واعتماد تقسيمات انتخابية «موديل الستين» ترضي الحدّ الادنى من مطالب ميشال عون الذي تخلّى مرغما عن حق، سبق ان جاهر به، بانتخابه رئيسا.
في الحالة الاولى قاد سقف «الجنرال» العالي والثابت الى طرح المفهوم التأسيسي للجمهورية على بساط البحث، وإن من خلال المداولات السياسية، ما يعني حكما إعادة النقاش في تجربة الطائف وصولا الى إجراء تعديلات نوعية في جوهر عمل النظام.
هذه المرة الفراغ في قصر بعبدا لن يقود الى تسوية داخل غرف فندق في دولة خليجية كما حصل العام 2008. وهذه المرة ليس 7 أيار، بكل تفاصيله المحلية، هو الذي سيقود الى تغيير قواعد اللعبة.
ثمّة توجّهان متناقضان، وما بينهما خريطة اقليمية لم تتوضّح معالمها بعد: القناعة الاولى قائمة على مبدأ «الرئيس القوي والاكثر تمثيلا وإلا تعالوا لنبحث في أصل وفصل الجمهورية»، وعندها ستبرز عورة ميثاقية اثبتت التجارب انها طبقت بانتقائية كاختيار الاصناف من لائحة طعام. القناعة الثانية تستند الى معادلة «الكرسي تصنع رئيسا قويا او ضعيفا، فإما رئيس توافقي وإما جمهورية بلا رأس!».
فراغ القصر يحكمه النزاع بين هاتين المعادلتين، فيما دكاكين الحوار المفتوحة لا تبشّر بالحسم القريب لصالح واحدة منهما، او لصالح تسوية «اهلية بمحلية».
وبعبدا التي تنتظر انتخاب رئيس الجمهورية، الرابع في عهد الطائف، منذ أكثر من ستة أشهر، باتت بحكم المتيقّنة ان لا «الجنرال» ولا «الحكيم» ولا «الشيخ» ولا «البيك».. سيجلس اي منهم على كرسيّ الفخامة. هو ليس عهد القادة الموارنة «الاقوياء». إذا لم يكن ميشال عون، فلن يكون حتما سمير جعجع او امين الجميل او سليمان فرنجية.
المخاض الذي تمرّ به المنطقة وعدم وضوح الرؤية سوريا، يزكّيان هذا الواقع. يبقى الركون الى الخيار الثالث، الذي لن يكون على حساب فريق دون آخر.
حتى اللحظة، المعني الاساسي بإعطاء شرعية لهذا الخيار، أي ميشال عون، لا يمنح منتظري مجيء الرئيس على صهوة توافقية الطوائف إشارة البدء باستكشاف مروحة الاسماء المدرجة على لائحة الوسطيين.
باستثناء المرشحين المحتملين للرئاسة، لا احد يبدو مستعجلا على عودة الحياة مجددا الى أروقة القصر.
(السفير)