مقالات مختارة

حمص تنتصر على الموت علاء حلبي

 

بعد نحو أربعة أعوام على بدء الحرب في سوريا، يستطيع زائر حمص، المدينة التي اعتبرها المعارضون «عاصمة الثورة» منذ بدايتها، أن يدرك حجم المأساة التي خلفتها معارك حوّلت «عاصمة النكتة» إلى «مدينة جريحة».

رائحة الموت ما زالت تفوح من شوارع حمص. نصفها خال من السكان فيما النصف الآخر جريح ينزف أبناءه.

لكن المدينة، وبرغم ما جرى، تحاول الانتفاض من تحت الرماد والعودة لتنبض بالحياة.

تستقبل حمص زوارها القادمين من دمشق بحاجز عسكري كبير، يقوم بتفتيش دقيق للبحث عن مطلوبين أو «مواد متفجرة» قد يتم ادخالها إلى هذه المدينة، التي ما زالت تعاني من المتفجرات، على وقع حياة مزدحمة.

تمر قرب «جامعة البعث» التي تضج بالحياة (أكثر من 120 ألف طالب يتلقون التعليم في الجامعة).

يذكر أبناء المدينة جيداً تلك الأيام التي كان فيها حي بابا عمرو يشكل تهديداً حقيقياً لـ «جامعة البعث»، التي طالتها القذائف، ما تسبب باستشهاد 22 طالباً، وإصابة نحو 34 (بينهم من أصيب بإعاقة)، وفق مسؤولي الجامعة، قبل تعود مركزاً تعليمياً مهماً يستقبل في مدينته الجامعــية أكثر من 13 ألف طــالب من المحــافظات الأخرى، وآلافا آخرين موزعين بين أحياء المديــنة الآمنة نسبياً الآن.

تزدحم الأحياء التي كانت مؤيدة للحكومة في بداية الأحداث (عكرمة، النزهة، وادي الذهب، كرم اللوز، الزهراء، الأرمن، وغيرها)، وقد بقيت آمنة نسبياً، في حين تكاد الأحياء التي كان يسيطر عليها مسلحو المعارضة تكون خالية من السكان (بابا عمرو، النازحين، عشيرة، كرم الزيتون، حمص القديمة، دير بعلبة، البياضة..) بعدما اضطر معظم سكانها إلى مغادرتها خلال المواجهات المسلحة بين الجيش السوري والفصائل المقاتلة، لتعود بعض العائلات في وقت لاحق بعد سيطرة الجيش، في حين لا يزال كثيرون موزعين بين الأحياء المؤيدة للحكومة، والتي شكلت ملاذا آمناً لهم، وبين مخيمات اللجوء في لبنان، والريف الحمصي المشتعل.

يروي معظم من تلتقيهم في حمص تفاصيل «مجزرة» عاشوها، أو تفجير سرق أحد أحبائهم، أو حكاية «شهيد» كان يقاتل «دفاعاً عن المدينة».

عن بدء الأحداث في المدينة روايات عدّة، تصب جميعها في خانة واحدة: «جهات كانت تعمل على خلق الفتنة… عمليات خطف بين الطوائف والأحياء… وإطلاق نار على المارة مقروناً بتظاهرات متفرقة».

ويشير أبناء المدينة اليوم بأصابع الاتهام إلى «جهات خارجية» و «متآمرين من الداخل».

خطف وقتل

أكثر الاختراقات الأمنية التي عانت منها مدينة حمص في بداية الأحداث كانت حوادث الخطف والقتل.

يقول حسام ميا، وهو مدرّس سابق في مدرسة «قزحل» في ريف حمص، وأحد الناجين من المجازر التي طالت المدنيين بداية الأحداث في الثاني من تشرين الثاني العام 2011: «بعد انتهاء دوامي كنت عائداً بالسرفيس (سيارة الأجرة). ونتيجة الازدحام امتلأت السيارة بـ15 راكباً. كان يوماً لا أنساه أبدا».

يتوقف ميا، عن الحديث قليلاً، قبل أن يكمل لـ«السفير» قائلاً «بعدما وصلنا إلى إشارة جامع خالد، وبدل أن يكمل السرفيس طريقه، انحرف يمينا بحجة إطلاق النار في حي الخالدية، واتجه نحو وادي السايح حيث يوجد حاجز للمسلحين قرب مدرسة الأموية، لنكتشف أن السائق كان يتعامل معهم».

ويضيف «طلبوا بطاقاتنا الشخصية، فأخرج البعض بطاقته، ثم اخلوا سبيل شابين من الخالدية وأربع فتيات، وبقينا تسعة أشخاص رفضنا إبراز بطاقاتنا، ومن بيننا سيدة وزوجها».

ويتابع «قتلوا المرأة فوراً، فجلس زوجها يبكي فوق رأسها قبل أن يقتلوه، وبعدها وضعونا على حائط مدرسة وأطلقوا الرصاص علينا».

أصيب حسام جراء إطلاق النار في قدمه، وسال دمه، فظن المسلحون انه فارق الحياة، وتحركوا تاركين وراءهم جثثاً هامدة، قبل أن يتقدم بعض المواطنين محاولين إنقاذ من بقي على قيد الحياة.

ويقول حسام «أنقذت حياتي امرأة في الأربعين من عمرها، هي من سكان الحي، أوقفت سيارة ونقلتني إلى المستشفى، فيما فارق البقية الحياة».

كثيرة هي القصص المماثلة في حمص التي شهدت منذ بداية الأحداث أعمال عنف، أبرزها الهجوم على نادي الضباط، وقتل العامل فيه عادل فندي وإصابة آخرين، وهي حادثة شكلت منعطفاً في المدينة، قبل أن تتوالى بعدها عمليات الاغتيال، والخطف، والتمثيل بالجثث، الأمر الذي خلق احتقاناً طائفياً شكّل أرضاً خصبة لحرب طويلة ما زال أبناء المدينة يدفعون ثمنها.

عانت حمص، بعد ارتفاع وتيرة التمرد والاشتباكات، من تقطع أوصالها، حيث سيطر المسلحون على أحياء كثيرة، وحاصروا أحياء «موالية»، أبرزها حي الزهراء، الذي كان سكانه يضطرون للانتقال إلى ريف حمص (عبر قرية زيدل، وفيروزة) للوصول إلى أحياء أو مدن أخرى.

استعادة الأحياء

«عمليات الخطف والاعتداءات المتكررة دفعت أبناء الأحياء (الموالية) إلى تشكيل لجان شعبية في البداية للدفاع عنها»، يقول قيادي في قوات «الدفاع الوطني» في حمص لـ «السفير»، مضيفا «مع مرور الوقت تم تنظيم عمل هذه اللجان ضمن مؤسسة ذات هيكلية واضحة لضمان ضبط الأمن، حيث جاء تشكيل الدفاع الوطني كحاجة ضمن الظروف التي مرت بها حمص، والتي تطلبت مؤسسة رديفة للجيش ساهمت في إعادة الأمان إلى المدينة».

أولى العمليات العسكرية التي تمت في حمص كانت في «معقل الثورة»، حي بابا عمرو الشهير، الذي حوصر طويلاً قبل أن يقرر الجيش السوري والفصائل التي تؤازره، بدء حملة عسكرية لاستعادة السيطرة على أحياء المدينة، التي تتوسط سوريا، حيث سيطر على الحي الذي كان يعتبره مسلحو المعارضة حصناً منيعاً يستحيل سقوطه بشكل كامل، قبل أن تتوسع عمليات الجيش وينجح من خلالها في السيطرة على جميع أحياء المدينة باستثناء المدينة القديمة (قلب حمص)، التي خرج المسلحون منها اثر اتفاق بوساطة أممية، بعد حصار طويل ونفاد الطعام والمؤن لديهم، بالإضافة إلى حي الوعر الذي لا تزال الفصائل المسلحة تسيطر عليه حتى الآن، والذي يحاصره الجيش السوري وقوات الدفاع الوطني.

وشكلت استعادة الجيش السوري السيطرة على أحياء حمص صدمة في الأوساط المعارضة، خصوصاً أنها تعتبر المدينة «عاصمة للثورة»، إضافة إلى موقعها الجغرافي المهم في سوريا، والذي يتصل بحماه وإدلب حتى تركيا شمالاً، ولبنان جنوباً، ودمشق في الجنوب الشرقي، والحدود العراقية شرقاً، ما يعني التحكم بمعظم طرق الإمداد في سوريا.

«المسلحون أرادوا جعل حمص بنغازي سوريا (مقارنة بليبيا)، لكن العمل العسكري أفشل مخططهم بالكامل، لتصبح حمص منطلقاً لعمليات الجيش السوري، بدلاً من أن تكون معقلاً للفصائل المسلحة»، يقول مصدر عسكري.

عمليات الجيش السوري العسكرية، التي انطلقت في مطلع العام 2012، لم تتوقف عند حدود المدينة فحسب، بل امتدت إلى القصير (أحد أهم ممرات تهريب الأسلحة عبر لبنان)، والتي سيطر عليها في حزيران العام 2013، قبل ان يحكم السيطرة على منطقة الزارة وقلعة الحصن (في آذار الماضي)، ضمن عمليات عسكرية معقدة شارك فيها «حزب الله».

وفي وقت يفرض فيه الجيش السوري سيطرته على كامل مدينة حمص (باستثناء حي الوعر الذي يضم نحو 300 ألف نسمة وفق تقديرات المعارضة)، ومحيطها، وعلى الحدود مع لبنان، تبقى المناطق الشمالية (ريف حمص الشمالي)، شوكة في خاصرة المدينة، فالمنطقة المفتوحة على تركيا تشكل في الوقت الحالي مركز إطلاق القذائف على المدينة، انطلاقاً من الرستن وتلبيسة، وحتى الدار الكبيرة.

«لا يمكن تأمين حمص بشكل كامل إلى أن تتم السيطرة على هذه المناطق»، يشرح المصدر العسكري، ثم يضيف، بعد أن يرمق خريطة أمامه، أن «هذه المناطق مفتوحة على ريف إدلب وتركيا، والسيطرة صعبة للغاية. ولا بد إذاً في البداية من قطع طرق الإمداد، وهذا الأمر لا يبدو انه سهل في الوقت الحالي».

وبالرغم من القذائف التي تطال حمص يومياً، فقد تعايش أبناء «المدينة الجريحة»، وهي التسمية التي يفضل سكانها إطلاقها على مدينتهم التي ظلت ولفترة طويلة «مدينة النكتة والابتسامة»، مع هذه الظروف.

ويقول محمد علي الضاهر، وهو صحافي يعمل مراسلاً لمحطة محلية، «لا يوجد منزل لا يخلو من شهيد أو جريح أو مفقود»، مضيفاً «الحرب قضت على الحياة المدنية تقريباً، لكن السكان اعتادوا هذه الحياة في الوقت الحالي وتأقلموا معها».

وفي حين لا توجد إحصاءات رسمية لعدد المواطنين الذين سرقت الحرب أرواحهم في حمص، أو عدد الجرحى، بشكل دقيق، يبقى ملف مفقودي المدينة (ممن قامت الفصائل المسلحة بخطفهم) أحد أبرز الملفات التي تؤرق المواطنين، حيث يبلغ عدد المفقودين، وفق آخر الإحصاءات الرسمية، نحو 2600 شخص، معظمهم لا يعرف مكان احتجازه، أو حتى إن كان على قيد الحياة.

في حي الأرمن، وعلى جدار مؤسسة المياه علق ناشطون مئات الصور لـ «شهداء» المدينة، من بنات ونساء وأطفال. «هذا المكان أصبح كمحجة لأبناء المدينة»، يقول رجل خمسيني كان يقف قبالة الصور، مشيرا إلى إحدى الصور «هذا ابني»، ويضيف بعد دقائق من الصمت «انه شهيد»، قبل أن يغادر المكان.

وبالإضافة إلى عمليات الخطف والقتل التي تعرض لها السكان، عانت حمص من السيارات المفخخة التي اخترقت الأحياء الآمنة، حيث تم إحصاء 23 تفجيراً طال معظم أحياء حمص، بينها ثلاثة تفجيرات مزدوجة. إلا أن أعنف هذه التفجيرات هو الذي طال مدرسة عكرمة، والذي حصد أرواح أكثر من 40 طفلاً.

تزدحم أسواق المدينة التي تتركز في شارع الحضارة وحي الزهراء ومحيطهما، كما تمتلئ المقاهي بالرواد، الذين يغلب عليهم الزي العسكري.

«العمل العسكري سرق سكان المدينة» يقول «عماد»، الطالب في قسم اللغة الانكليزية في كلية الآداب في جامعة البعث. ويضيف، وهو ينفث دخان نرجيلة، «كانوا يريدون محاصرتنا لدفعنا لترك مدينتنا، إلا أن السحر انقلب على الساحر، المدينة آمنة الآن، والمسلحون محاصرون في حي الوعر».

ويتابع الشاب البالغ من العمر 23 عاماً «كانوا في البداية أصحاب الفعل، أما الآن فكل تفجيراتهم واستهدافهم للمدينة هو رد فعل على تحركات الجيش السوري. هذا الأمر مطمئن».

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى