أوروبا تنفض يدها من «جبهة النصرة» عبد الله سليمان علي
ثمّة معلومات أولية بأن التحالف العربي ــ الدولي يخطط لتوسيع عملياته بداية العام الجديد، كي تطال للمرة الأولى مناطق في الجنوب السوري، حيث الهيمنة لـ «جبهة النصرة».
وبالرغم من استمرار المساعي لتفادي هذا الخيار، نظراً لما يمكن أن ينجم عنه من تعقيدات إضافية على المشهد السوري، إلا أن تعنّت «النصرة»، الذي تمثل بإطاحتها بفصائل «الاعتدال» المدعومة غربياً في سبيل تكوين «إمارتها»، ساهم في تضخيم قلق العواصم الأوروبية التي وجدت نفسها مضطرة إلى حسم موقفها، ولو كان ثمن ذلك التضحية بالفوائد التي كانت تجنيها نتيجة الخدمات المتبادلة.
وكانت النظرة أوروبياً إلى «جبهة النصرة» أنها تنظيم يمكن العمل على تدجينه وتطويعه على نحو يخدم الأجندة الغربية في سوريا. ولا يمكن الفصل بين هذه النظرة وبين الجهود الحثيثة التي بذلت خلال الأشهر الماضية، خصوصاً من قبل قطر وتركيا، بهدف تغيير عقيدة وسلوك كل من «النصرة» و «أحرار الشام»، اللذين يعتبران من أقوى الفصائل الإسلامية على الأرض، تمهيداً لضمّهما إلى قائمة الفصائل المعتدلة، غير أن هذه الجهود كانت تصطدم دوماً بالصراع داخل التنظيمين، بين تيار متعاون وآخر متشدد.
وبالرغم من أن الاستخبارات القطرية نجحت في مرحلة ما بتغليب التيار المتعاون، إلا أن الاغتيال الجماعي لقادة «أحرار الشام»، وعلى رأسهم أبو يزن الشامي صاحب مشروع الابتعاد عن «السلفية الجهادية»، أدى إلى انحسار هذا التيار لمصلحة التيار المتشدد، من دون أن يتبين حتى الآن صاحب المصلحة الحقيقية الذي يقف وراء هذا الاغتيال.
ومنذ الاغتيال الجماعي لقادة «أحرار الشام» في أيلول الماضي، بدا واضحاً أن التيار المتشدد نجح في الإمساك بزمام القيادة، خاصةً في «جبهة النصرة» التي لم تخف مساعيها للاستفراد بالسيطرة، وإنشاء «إمارة» لها تطبق فيها فهمها الخاص للشريعة الإسلامية، وتجلى ذلك عبر طردها «جبهة ثوار سوريا»، أحد أهم الفصائل المدعومة غربياً من ريف إدلب، وكذلك الدخول في مواجهات في ريف درعا الغربي مع «لواء شهداء اليرموك» المعروف بعلاقاته مع الاستخبارات الأردنية والأميركية. كما برزت خلال اليومين الماضيين مؤشرات على احتمال اندلاع مواجهات بينها وبين «حركة حزم» صاحبة امتياز صواريخ «لاو» الأميركية في ريف حلب، بالإضافة إلى اقتحاماتها المستمرة ضد بعض الفصائل في ريف حمص، كما في الرستن، مستهدفة قيادات في «الجيش الحر» مثل حسن الأشتر وخالد دعاس.
هذه الوقائع مجتمعة ساهمت في ترسيخ صورة جديدة عن «جبهة النصرة» بأنها بدأت بالخروج عن السيطرة، وأن فرص تدجينها بدأت تتقلص، لكن في المقابل كانت «النصرة» تحاول إرسال رسائل إيجابية باتجاه الغرب بغية امتصاص نقمته، أو على الأقل عدم استجرار عدائه.
وتكثفت هذه الرسائل منذ آب الماضي عندما أطلقت سراح راهب فرنسيسكاني كانت اختطفته في ريف إدلب. ثم أقدمت على إطلاق سراح الصحافي الأميركي بيتر كويتس لتمييز نفسها عن تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ــ «داعش» الذي كان أعدم أول رهينة أميركية في تلك الأثناء.
بعد ذلك، وتحديداً في أيلول، أعلنت «جبهة النصرة» للمرة الأولى عن اشتراطها حذف اسمها من قائمة المنظمات الإرهابية مقابل إطلاق سراح جنود فيجي الدوليين المحتجَزين لديها، لكنها أطلقتهم من دون أن يتحقق شرطها. والرسالة الأخيرة تشير بشكل واضح إلى وجود قناة تفاوض مفتوحة بين «جبهة النصرة» وبين بعض الدول الغربية.
وكانت الدول الغربية تريد الاستفادة من القدرات العسكرية التي تتمتع بها «جبهة النصرة» لتنفيذ أجندتها في سوريا، من دون أن تتلوّث علناً بلوثة التحالف مع تنظيم «القاعدة»، لذلك كانت تشترط عليها فك ارتباطها مع «القاعدة» لقاء إعادة تصنيفها وضمها إلى الفصائل «المعتدلة»، مع ما يعنيه ذلك من الاستفادة من امتيازات الدعم والتمويل التي تقدم إلى هذه الفصائل.
وفي المقابل، كان الجناح المتشدد داخل «جبهة النصرة» لا يمانع في تقديم خدماته إلى الغرب، لكن بشرط عدم مطالبته التخلي عن ولائه «القاعدي». وبغض النظر عن الأهمية العقائدية لهذا الولاء إلا أن المعطيات تؤكد أنه ليس بمقدور «جبهة النصرة» فك ارتباطها مع «القاعدة»، لأن ذلك يعني أنها قررت الانتحار رسمياً، لأنها بمجرد أن تتخلى عن مبايعة زعيم التنظيم أيمن الظواهري فإن المئات، إن لم يكن الآلاف، من مقاتليها سينضمّون إلى خصمها اللدود «داعش».
وفي حال صحت التصريحات التي نسبتها وكالة «آكي» الإيطالية إلى ديبلوماسي أوروبي رفيع المستوى حول استعداد بعض الدول الأوروبية للتدخل من أجل رفع اسم «النصرة» عن قائمة الإرهاب مقابل تغيير إيديولوجيتها وممارساتها، فإنها تمثل دليلاً إضافياً على وجود قناة تفاوض بين الطرفين.
وتشير تصريحات الديبلوماسي الغربي إلى أن المفاوضات بين الطرفين، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، وصلت إلى طريق مسدود، وأن الصبر الأوروبي تجاه «جبهة النصرة» بدأ بالنفاد، وبالتالي فإنها ستدفع ثمن ذلك قريباً، وهذا ما يدل عليه تحديده مهلة قصيرة للغاية، حيث قال «إذا أرادت (الجبهة) الاستفادة من بعض ما يمكن أن ينقذ مقاتليها، عليها التغيير السريع، ولن تكون مثل هذه الفرصة متاحة بعد شهر أو ربما بعد أيام معدودة». وتنبغي ملاحظة أن الديبلوماسي الغربي ربط بين التغيير السريع وبين إنقاذ مقاتلي «جبهة النصرة»، ما يعني أن عدم التغيير سيشكل خطراً على مقاتليها، فما هو هذا الخطر؟
وتتقاطع تصريحات الديبلوماسي الغربي مع معلومات حصلت عليها «السفير» من مصادر محلية في مدينة درعا، أن بعض الدول الغربية تتواصل مع قادة بعض الفصائل من جهة، ومع شيوخ بعض العشائر من جهة ثانية، بهدف العمل على تشكيل تحالف عسكري من الطرفين، تكون مهمته الأساسية محاربة «جبهة النصرة» في المنطقة الجنوبية، مع وعود بأن يتلقى هذا التحالف البري مساعدة من طائرات التحالف الدولي.
وأشارت المصادر، التي تحدثت إلى «السفير»، إلى أن الجميع سمع كلاماً واضحاً بأن عمليات التحالف الدولي ستتجه باتجاه الجنوب بعد بداية العام الجديد، في حال نجحت المساعي لتشكيل تحالف الفصائل والعشائر.
وقد يعزز من صحة ذلك ما حذر منه قبل أسبوع القيادي في «جبهة النصرة» أبو ماريا القحطاني من تلقي بعض الفصائل أسلحة من «غرفة عمليات الموك»، التي تشرف عليها واشنطن وبعض الدول من «مجموعة أصدقاء سوريا»، لتقاتل بها «جبهة النصرة»، إضافة إلى المعلومات التي أوردتها «السفير» في عدد سابق حول لقاءات مكثفة بين «غرفة الموك» وغالبية قادة «الجيش الحر» في المنطقة الجنوبية.
كما أن بعض الناشطين لا يخفون اعتقادهم بأن مسارعة «جبهة النصرة» إلى قتال «لواء شهداء اليرموك»، بذريعة مبايعته «داعش»، يعود في الحقيقة إلى قناعة راسخة لدى قيادة «النصرة» بأن هذا «اللواء» يجري إعداده ليكون رأس الحربة في قتالها، وبالتالي أرادت قطع الطريق على تشكيل تحالف عسكري ضدها، وهو ما يجعل التطورات في الجنوب السوري مفتوحة الاحتمالات، خصوصاً في ظل التسابق بين الطرفين لتجميع نقاط القوة بانتظار مواجهة قد لا تكون بعيدة.
(السفير)