نقاشات أميركية حول سورية
غالب قنديل
تتلاحق المؤشرات على تفاعلات الفشل الأميركي في النيل من الدولة الوطنية السورية التي تسنى لصمودها التأثير في الكثير من التوازنات والمعادلات الدولية والإقليمية. وقد نشأت عن هذه التغييرات وقائع باتت تفرض تكيفاً في السياسة الأميركية والغربية على رغم صعود اللغة العنجهية.
أولاً: التكيف الأميركي في الموضوع السوري يشتد صعوبة بفعل حجم تورط الحكومات الإقليمية الدائرة في الفلك الغربي، ولهذه الحكومات وظائفها المستمرة في منظومة الهيمنة الاستعمارية. فقد أظهرت الأحداث الأخيرة محورية الدور السعودي عبر استعمال سلاح خفض أسعار النفط ضد روسيا وإيران. وعلى رغم الضرر الفادح اللاحق بالمملكة، لكنها ارتضت هبوطاً كبيراً لعائداتها، وهي تسدد بذلك كلفة الرضا الأميركي والحماية الناشئة عنه، بينما تختص تركيا وقطر معاً بحماية تنظيمات الإخوان المسلمين وبرعاية فصائل القاعدة وفروعها كاحتياط تريد الولايات المتحدة الحفاظ عليه تحت مظلتها لتستعمله حيث تستدعي مصالحها في حروب استنزاف للخصوم والمنافسين.
ما تقدم لا ينفي حقيقة اصطدام العنجهية الأميركية بأسوار الصمود الروسي الإيراني الصيني وبقسوة الخيبة في واشنطن أمام حقائق الميدان السوري الذي يمثل الخط الأمامي لجبهة مناهضي الهيمنة الأحادية الأميركية، وبعدما أظهر شركاء سورية مؤخراً المزيد من الاحتضان والدعم لإرادة المقاومة الوطنية السورية التي يقودها الرئيس بشار الأسد بشرعيته الشعبية والدستورية وفقاً لتعبير الرئيس فلاديمير بوتين.
ثانياً: التخبط الأميركي تحكمه أربعة عوامل حاسمة:
صلابة الدولة الوطنية والجيش العربي السوري وثبات كتلة شعبية سورية ساحقة عابرة للطوائف خلف زعامة الرئيس الأسد على رغم جميع أدوات الحرب التي استعملت طيلة أربع سنوات.
انهيار وتلاشي واجهات المعارضة السياسية والتشكيلات العسكرية التي لفقها الناتو بقيادة الاستخبارات المركزية الأميركية وحكومات العدوان في المنطقة تحت يافطات الاعتدال المزعوم.
انتقال الكتلة العسكرية متعددة الجنسيات التي تقاتل ضد الدولة السورية إلى جناحين كبيرين لـ«القاعدة» هما «داعش» و»جبهة النصرة»، وهذا التحول فرض التحسب لخطر ارتداد الإرهاب وخروجه عن السيطرة كما قال باراك أوباما عند إعلان حملته على الإرهاب.
استمرارية ومتانة الدعم الذي تلقاه الدولة السورية وقواتها المسلحة من شركائها، خصوصاً من حزب الله وروسيا وإيران، وعدم اهتزازه في أصعب الظروف وتحت شتى الضغوط التي قادتها الولايات المتحدة، ونجاح هذه المنظومة في التصدي لحلف العدوان والتفوق سياسياً وميدانياً.
ثالثاً: ظهرت وقائع جديدة عن مفردات النقاش في كواليس السياسة الأميركية، فقد اهتمت وسائل إعلام أميركية عدة بالتقرير الخاص حول الوضع السوري الذي أعده الكاتب الأميركي نير روزين من مركز السلام الإنساني في حصيلة قيامه بتجميع كمية من الوقائع والمعلومات الميدانية من سورية ومضمون نقاشاته مع موظفين كبار في كل من وزارة الخارجية الأميركية ومجلس الأمن القومي. وقد عرض التقرير في صفحاته الخمس والخمسين كثيراً من التفاصيل وأعد المركز ملخصاً من إحدى عشر صفحة تناول فيها أبرز النقاط.
مجلة فورين بوليسي الأميركية نشرت مقالاً كتبه محررها لشؤون الشرق الأوسط ديفيد كينير عرض لأبرز ما تضمنه تقرير روزين. وقد لخص التوصيات والاستنتاجات التي تضمنها التقرير، مشيراً إلى أن المجموعة البحثية التي ينتمي إليها روزين شاركت في الجهود الهادفة لترتيب المصالحات المحلية في مدينة حمص بالتعاون مع القيادة السورية، وهي تتبنى تعميم هذه الوصفة في مناطق أخرى.
يؤكد روزين أن الدولة السورية هي دولة علمانية تقدمية وعلى رغم جميع المزاعم التي تصفها بالدولة القمعية فهي تقيم نظام رعاية مهماً جداً في مجالات التعليم والطبابة خلافاً لمعظم دول المنطقة الأخرى. وينفي الباحث الأميركي المزاعم عن صراع طائفي في سورية، موضحاً الطابع الوطني للدولة السورية ولنسيجها العابر للطوائف والديانات. ويعرض بالمقابل لتركيبة المعارضة التي تقاتل ضد الجيش السوري وطغيان التطرف الطائفي والديني على تركيبتها، بينما الجيش يعكس في بنيته خليطاً وطنياً من جميع المكونات على نقيض المزاعم الغربية التركية والخليجية. ويقول روزين إن فصائل المعارضة هي كناية عن تجمعات متطرفين ومرتزقة تنادي بحكومة إسلامية وتنشط في بيئة سياسية، تهيمن عليها في الحصيلة قوى إرهابية متطرفة كـ»جبهة النصرة» و»داعش».
رابعاً: يؤكد تقرير روزين على فرص نجاح المصالحات المحلية لمحاصرة الإرهاب والتطرف في سورية، وهو يدعو إلى التعاون مع دول أوروبية قادرة على التعاون مع الدولة السورية في رعاية هذه المصالحات. ويقترح ألمانيا على سبيل المثال، لأن العلاقة الأميركية السورية مأزومة ومرشحة لتبقى في هذه الحال لسنوات مقبلة بسبب الخشية الأميركية من كلفة التراجع معنوياً وسياسياً.
ويجري الكاتب مقارنة بين تقرير روزين ومبادرة دي ميستورا على رغم إنكار فريق الموفد الدولي لأي علاقة بين الرجلين. وهو يذكر أيضاً بما انتهت إليه من توصيات دراسة ميدانية حول 26 اتفاقاً لوقف إطلاق النار في سورية بإشراف كلية لندن للاقتصاد. ويشير إلى أن إدارة باراك أوباما تخلت عن أوهام إسقاط الرئيس الأسد، بينما تراهن على ما تدعوه بمعارضة معتدلة تتبخر واقعياً في الميدان لمصلحة الجماعات الإرهابية التكفيرية. وهذا بالفعل ما لاحظته تقارير العديد من مراكز الدراسات الأميركية كمعهد كارينغي ومعهد دراسات الحرب.
النقاش في واشنطن يتواصل والوقائع تتراكم على الأرض لتؤكد أن في سورية دولة وطنية صامدة، وجيشاً قومياً متماسكاً، وغالبية شعبية ساحقة تزداد اتساعاً خلف زعامة الرئيس بشار الأسد. فهل تنزل الإدارة عن شجرة الوهم أم تواصل الدوران في متاهة مأزق متزايد الكلفة؟.