الحل السياسي في سوريا … ممكن سامي كليب
دمشق | السفارة الايرانية في دمشق مزنّرة بطوق اسمنتي وسط جادة المزة. مثلها السفارة الروسية. السفارتان مستهدفتان مُذ زنّرتا القيادة السورية بطوق دبلوماسي ومساعدات عسكرية ومالية بقي معظمها طي الكتمان. ربما لم يتغير القلق من احتمال تفجيرات، لكن اتساع رقعة مشاورات البلدين صوب كل أطياف المعارضة السورية يغيِّر بعض المناخ المعادي، ويرفع منسوب الأمل لدى السوريين، كما أن إحكام الجيش السوري سيطرته على معظم المناطق المجاورة لدمشق أوقف سيل التفجيرات، ويكاد يوقف سقوط قذائف الهاون على العاصمة.
حاولتُ منتصف نهار أمس الوصول الى باب توما الواقع عند الشمال الشرقي للسور الدمشقي العابق بالتاريخ والحضارة كمعظم سوريا. لم أستطع. ازدحام السير لافت. روى لي بعض العابرين كيف ان الدمشقيين اعتادوا قذائف الهاون. «كانت القذيفة تسقط ليس بعيداً عن هنا. كنا في البداية نخاف. نترك السيارة ونسارع للاحتماء في أي مكان. الآن قلّما تسقط قذيفة، لكن لو سقطت، ننظر الى مكان سقوطها ونواصل السير…». فكَّرتُ في «متلازمة ستوكهولم». هذه نظرية نفسية تجعل الضحية يتقارب في لحظة ما مع جلاده. هل اعتاد الضحايا الدمشقيون صوت القذيفة فعلا أم يئسوا؟
لعل ثمة شيئاً من الاثنين. الناس تعبوا ويريدون حلاً. معظمهم يحنّ إلى أيام الأمن وبعض الرفاهية التي غزت دمشق في أواخر التسعينيات. نسي كثيرون لماذا انتفض الناس أصلاً. الجميع يريد عودة الدولة بغض النظر عن حبهم للنظام او معارضتهم الضمنية له. هذه حالة عامة تحصل في كل الحروب. تذكرت حين راح أهل بيروت يتمنّون عودة الجيش السوري في منتصف الثمانينات حين صار الرفاق في الاحزاب نفسها يقاتلون الرفاق على مزابل التاريخ.
لا يناقض تعب الناس المدنيين سوى اولئك الشبان في مقتبل العمر، يرتدون الثياب العسكرية المرقّطة، يجوبون الفنادق كلما زار ضيف رسمي العاصمة السورية، تماماً كما فعلوا قبل يومين مع استقبال رئيس مجلس الشورى الايراني علي لاريجاني. تتقاطع على وجوههم علامات الحزم والرغبة في الحسم. بعض هؤلاء يقاتل للعام الرابع على التوالي. بعضهم فقد الكثير من رفاقه، شأنهم كشأن من يقاتلهم، لكن تطورات العام المنصرم،
ودخول التحالف الدولي الى الجو لمحاربة «داعش» و»النصرة» وغيرهما، غيَّرا بعض معالم الطريق. ارتاح الجيش السوري أكثر برغم النكسات التي ألمّت به في بعض الأشهر الماضية. لا أحد يستبعد شيئاً ما في دير الزور بعد حلب. ثمة استعدادات لأمر كبير ربما قبل الدخول في الحوار السياسي.
كل ذلك مهم، ولكن متى الخلاص؟ متى الحل السياسي؟ يسأل أهل دمشق زوارهم من الصحافيين. يضيع السؤال في منطقة باب توما المزدانة كعروس بزينة الميلاد. هنا كانت تسقط القذائف حتى العام الماضي، هنا عاد الفرح يزهو فوق الجراح، ليستقبل ولادة سيد الجراح والألم والرجاء عند المسيحيين.
كيف لأهل باب توما ألا يتمسكوا بالرجاء والأمل، وهم في باب أخذ اسمه من القديس توما، أحد رسل السيد المسيح، ولا يزال هنا منذ عهد الرومان برغم الغزوات الكثيرة. كانت الغزوات تغيِّر بعض ملامحه فتزيل كنيسة من هنا لتشيد مسجدا، او تزيل مسجدا لتبني كنيسة، لكنه بقي، كما سوريا، صامداً عبر التاريخ، ينبعث في كل مرة من تحت الرماد.
قصدنا باب توما ليلا بعدما عزَّ علينا الوصول اليه نهارا. منطقة تعج بالحياة، متلألئة بأضوائها برغم قلة المحروقات وانقطاع الكهرباء. تحاول ان تخترع فرحاً أمام محل سجق وشاورما، أو في مقابل تحفة فنية في الحوانيت العتيقة، أو بمحاذاة محل للثياب التي يحتال أهل الاقتصاد على غلائها باختراع وسائل تُقنع الناس بأن الحياة تستمر.
لم يعتد السوريون الرفاهية الا في عهد الرئيس بشار الأسد. قبله كان كيلوغرام الموز من لبنان هدية قيّمة. قال مرة الرئيس حافظ الاسد للاميركيين الذين جاؤوا يعرضون عليه اغراء ماليا: «ويل لأمة لا تأكل مما تزرع» . كان همه الاكتفاء الذاتي لكي لا يصبح تحت رحمة الغرب. غالباً ما ذكر المساعدات الاميركية لمصر كمثال.
لكن المصيبة ان ليس كل السوريين من اعتاد تلك الرفاهية، وانما طبقة برجوازية او من انصاف البرجوازيين او الاغنياء الجدد او الفاسدين الجدد، بينما الطبقات الزراعية والفلاحية هُمِّشت لمصلحة الصناعة. لعل هذا ما يُبقي الطبقة الصناعية الغنية، الحلبية والدمشقية، من أهل السنة أكثر رغبة بعودة الدولة قوية، لانها انتعشت كثيرا في السنوات الماضية. لعل بعضها يدفع الآن لتجنيد شبان السنة للالتحاق بالجيش، او لتعزيز المصالحات.
يضيع السؤال في باب توما عن الحل السياسي وسط بهجة العيد فوق الجراح، لكن الجراح تعيد السؤال لتلغي بعض البهجة في دمشق. هل من حل سياسي ممكن؟
نعم الحل ممكن، يقول أهل النظام. موسكو نجحت الى حد جيد في التواصل مع معظم المعارضة، كذلك تفعل حاليا مصر وايران وغيرهما. أميركا موافقة على المساعي الروسية. بعض المعلومات تؤكد ان السعودية أبلغت موافقتها المبدئية على خطة المبعوث الدولي ستيفان دوميستورا، لكن مواقف تركيا والسعودية وقطر لا تزال بالنسبة الى أهل النظام موضع اتهام وتشكيك. يبدو ان زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى انقرة لم تغيّر شيئا من تصلّب الرئيس رجب طيب اردوغان. وحده القلق الغربي من عودة الارهابيين الى أراضيه يسرِّع الرغبة بالحل حتى لو بقي الأسد.
إلام ستفضي هذه «الهمروجة « السياسية؟
ببساطة شديدة، مسألة تنحّي الرئيس او تقصير ولايته غير مطروحة بتاتاً عند أهل النظام، وبعضهم يؤكد انه تبلَّغ موقفا كهذا من مبعوثين أميركيين. لكن الجديد هو قبولهم الخطة غير المعلنة لبداية الحل، وهي كالتالي:
أولاً: لقاء بين اطراف المعارضة في موسكو للاتفاق على تأليف وفد معارض يمثل الجميع، بعدما فشل الائتلاف في تمثيل المعارضة، وصارت خلافاته اكثر من مبادراته.
ثانياً: عقد لقاء تشاوري، ثمة تشديد على كلمة «تشاوري» عند أهل النظام، بين المعارضة ووفد من الدولة السورية، بغية البحث عن خطة متكاملة للحل. بمعنى آخر، ما من خطة جاهزة، بل ستنتج عن ذاك الاجتماع. للمرء ان يتخيل كم سيأخذ ذلك من وقت وجولات.
ثالثاً: لا بأس إن تألّفت حكومة مشتركة تضم الدولة والمعارضة بعد الاتفاق على اسمائها وبرنامجها.
رابعاً: لا مساس مطلقا باسم الرئيس بشار الاسد او دوره، ذلك أن هذا الأمر صار من الماضي، وان الأميركيين انفسهم يبحثون عن مخرج لهذا الأمر، ربما تتولاه موسكو.
لا كلام عن الاسماء التي يمكن ان تضمها الحكومة اذا نجحت موسكو في مساعيها، لكن حتى معاذ الخطيب مثلاً لم يعد مستبعداً. صحيح ان الرجل خطيب مسجد سابق، وهذا يثير حساسية عند اهل النظام، لكن طروحاته الاخيرة واتصالاته الجيدة مع موسكو وغيرها تخفف من القلق الاسلامي الذي كان يثيره حين كان رئيساً للائتلاف. ثم هناك اتصالات مكثفة بين هيئة التنسيق وغيرها مع الشيخ معاذ بغية تأليف فريق معارض يضع حداً لتاريخ الائتلاف ويؤسس لآخر يكون مقتنعا فعلا بانهاء الحرب والدخول في حل سياسي.
من المهم الاشارة هنا الى الدور الذي تؤديه مصر بالتنسيق طبعا مع السعودية، لابعاد الاخوان المسلمين عن أي حل. يكفي ان نعرف عمق ما جرى بحثه مع وفد هيئة التنسيق في القاهرة قبل ايام لنفهم الرسائل.
دمشق تتحدث بايجابية عن الدور المصري تماماً كما تتلقى اشارات ايجابية، مداورة لا مباشرة، من الرئيس عبد الفتاح السيسي والخارجية بشأن العمق الاستراتيجي للامن العربي، ودور الجيشين المصري والسوري، والحرص على بقاء الجيش السوري قوياً، لكن ذلك لا يعني حدوث اختراقات في العلاقة. كل ما قيل مثلاً عن زيارة عماد الاسد، ابن عم الرئيس بشار الى القاهرة، ليس صحيحاً. فهو لم يحمل اي رسالة ولم يكلف أي مهمة، لكن مجرد حصول الزيارة جيد.
لا احد يتوقع ان يكون الحل السياسي قريبا، لكن المباشرة به ثم استمراره ولو أخذا سنوات مهمان. يكفي ان يحضر المرء احد احتفالات السفارة الروسية مثلا في دمشق ليرى معارضين من الداخل وممثلي الدولة السورية يتصافحون ويتضاحكون، حتى لو ان بعض الاعتقالات المسيئة إلى صورة الدولة ورغبتها في الحوار خارجياً لا تفسير لها، ومنها مثلا اعتقال لؤي حسين او رجاء الناصر او اختفاء عبد العزيز الخير.
قد يبرر البعض هذه الاعتقالات بأسباب ودوافع قانونية، لكن في بلد يعيش حرباً ضروساً كسوريا، ويريد الخلاص، تصبح الاستثناءات هي الأساس، لا التمسك بقوانين عديمة الفائدة، طالما ان القانون وُضع أصلا لخدمة الانسان لا العكس.
هل ثمة أمل فعلي بحل سياسي؟ لنقل هناك بداية أمل، لكن التاريخ يفيد بأن كل حل سياسي تسبقه وتتخلله جولات كثيرة من الاعمال العسكرية والعنف لتحسين الشروط. المفاجآت ممكنة اذاً من الجميع حتى لو ان الجيش السوري يشعر بأنه بات يملك المبادرة. فالآخرون أيضا يستمرون في إعداد المفاجآت.
في باب توما، الأمل كبير، لعل ثمة معجزة سياسية تخرج هذا البلد العربي العريق، الذي دافع طويلا عن كل قضايا العرب من حربه وحروب الكون على أرضه. المهم ان يقتنع الجميع في الداخل والخارج بأن التنازلات السياسية المشتركة مهما كانت سيئة، تبقى أفضل من سفك الدماء وتدمير ما بقي من سوريا.
(الأخبار)