انتصار كوبا وتفوق كوريا الإلكتروني د.منذر سليمان
بهدوء وثبات اعلن رئيس الولايات المتحدة “استدارة” بلاده لتطبيع العلاقات مع كوبا ونظامها الاشتراكي، واكبه اقرار صريح بفشل سياسة الحصار الاميركي الممتدة لخمسة عقود ونيف؛ ووعد الرئيس اوباما “بدء عهد جديد مع كوبا .. وانهاء نهج قديم في السياسة” نحوها، مناشدا الكونغرس “البدء باجراءات لرفع العقوبات عن كوبا،” التي ارساها الرئيس الاميركي الاسبق دوايت ايزنهاور ونفذها الرئيس كينيدي، اذ “لا نفع للعقوبات مع دولة تساعدنا في مكافحة الارهاب.”
بعض اعضاء حلف الناتو اعتبر الاعلان “مصالحة تاريخية،” خاصة وان عددا من الدول الاوروبية وكندا لم تشاطر واشنطن اجراءاتها بالمقاطعة، وعارضتها ايضا اغلبية ساحقة من الدول الاعضاء في الامم المتحدة وحاضرة الفاتيكان.
يذكر ان قرار ايزنهاور ومن ثم كنيدي جاء تطبيقا لمذكرة وزارة الخارجية الاميركية قدمتها ربيع عام 1960، حثت فيها الرئيس على اتخاذ “سلسلة خطوات عملية .. تتسبب في احداث مجاعة (ومن ثم تؤدي) للاطاحة بحكومة” الرئيس كاسترو. وهذا الوضع الشاذ كان حاضرا بقوة في اعلان الرئيس اوباما غير المسبوق في اقرار صريح وواضح بفشل السياسة الاميركية الرسمية.
الاعلان الجديد جاء ثمرة جهود مكثفة مباشرة بين هافانا وواشنطن، تحت رعاية كندا والفاتيكان، استمرت 18 شهرا شهدت جولات مد وجزر هددت بافشال المسعى بالكامل، سيما لاصرار الولايات المتحدة على ضرورة اطلاق كوبا سراح 58 سجين معتقلين لديها ثبتت عليهم تهمة العمالة لليانكي – كما توصف واشنطن في اميركا الجنوبية، فضلا عن اطلاق سراح الاميركي آلان غروس. بالمقابل، طلبت كوبا من واشنطن انهاء الحصار احادي الجانب المفروض عليها، وتطبيع العلاقات، واستعادة مواطنيها الثلاثة المحتجزين مقابل اطلاقها سراح الاميركي غروس وسجين اوحد بمفرده، من اصول كوبية، رولاندو صراف تروخيو، معتقل منذ نحو 20 عاما بتهمة التجسس لصالح وكالة الاستخبارات المركزية.
سبق الاعلان مكالمة هاتفية اجراها الرئيس اوباما مع الرئيس الكوبي راؤول كاسترو، استعرضا فيها تفاصيل اللحظات الاخيرة لترتيبات الاعلان دامت 45 دقيقة، واتفقا على التوجه لمواطني بلديهما في وقت متزامن لاطلاعهم على “الحدث التاريخي.” ما غاب عن وسائل الاعلام، او تجاهلته، امتثال واشنطن لشرط الجانب الكوبي بان الطائرة الاميركية لن يسمح لها مغادرة الاراضي الكوبية الا بعد مرور 5 دقائق على وصول الطائرة التي تقل المواطنين الكوبيين الثلاثة ارض الوطن؛ تجسيدا للخشية من غدر اليانكي وتنصله من تعهداته مما اضطره الانصياع واحترام سيادة الدولة والشعب الكوبي. وهذا ما نالته كوبا قبل مغادرة الطائرة الاميركية.
على الرغم من ان الاعلان جاء صادما “لجيل الحرب الباردة،” الا انه لم يأتِ من فراغ بل كمحطة توجت توجه الرئيس اوباما عقب فوزه بولاية رئاسية ثانية، عام 2012، واتخاذه القرار بضرور اجراء مراجعة شاملة للسياسة الاميركية حيال كوبا. اثمرت تلك الجهود بعقد اللقاء الاول منتصف عام 2013 بين نائب مستشار الأمن القومي الاميركي، بن رودس، ومدير مجلس الأمن القومي في كوبا، ريكاردو زونييغا. كما أتت استجابة متأخرة لنحو “23 عاما .. طالبت فيها الجمعية العامة للامم المتحدة الولايات المتحدة سنويا رفع الحصار المفروض على كوبا.”
ردود الفعل الاميركية جاءت متباينة، من كلا الحزبين، لتعكس حالة الانقسام السياسي داخل المؤسسة الحاكمة. قادة الحزب الديموقراطي بمعظمهم رحبوا بقرار الرئيس اوباما تطبيع العلاقات ووضع سياسة الاقصاء والحصار في الخلف والتأكيد على ان سيساسة العزل لم ولن تجدي نفعا وينبغي اطلاق مبادرات سياسية جديدة.
بعض القادة الديموقراطيين لفت النظر الى احدى أهم القضايا التي تضمنها اعلان الرئيس اوباما، بقوله “اتطلع بشوق لاشراك الكونغرس في نقاش صادق وبناء لرفع الحصار؛” معربين عن اعتقادهم انها ستكون معركة حامية الوطيس ليس مع نواب الحزب الجمهوري فحسب، بل مع عقلية الحرب الباردة المتجسدة “بشيطنة” كوبا والرئيسين كاسترو؛ وهم الذين أُخذوا على حين غرة في مناسبة “مصافحة الرئيس اوباما للرئيس كاسترو اثناء اشتراكهما في تأبين الرئيس نيلسون مانديلا،” في كانو الاول من العام الماضي.
مستشار الأمن القومي الاسبق زبغنيو بريجينسكي وصف تطبيع العلاقات بأنه “يشكل نجاحا لكلا الرئيسين اوباما وكاسترو، وغذاء فكريا (للرئيس فلاديمير) بوتين.” المرشحة المحتملة للرئاسة عن الحزب الديموقراطي، هيلاري كلينتون، تدعم قرار الرئيس اوباما بالانفتاح. مرشح الرئيس اوباما لمنصب نائب وزير الخارجية، انثوني بلينكن، حضر جلسة استجواب في مجلس الشيوخ مخصصة لنيل موافقته على المنصب، قبل بضعة ايام، اشار مواربة الى التقارب الاميركي الكوبي وتوجهه في منصبه الجديد لعدم معارضة اجراءات تتخذ لتخفيف الحصار والعقوبات على كوبا “شريطة افراج نظام الرئيس كاسترو عن (الآن) غروس.”
على الجانب المقابل، سارع اقطاب الصقور ومعسكر الحرب التنديد بالانفتاح الاميركي، لا سيما المتشددين في الحزب الجمهوري وعلى رأسهم العضوين من اصول كوبية والمرشحين المحتملين للرئاسة، تيد كروز و ماركو روبيو، اذ اعتبر الاخير ان الرئيس اوباما فرّط في مكانة وهيبة الولايات المتحدة وقدم تنازلات تضر بالمصالح القومية – وفق توصيفه.
الجالية الكوبية، ذات التأثير البالغ في ولائها للحزب الجمهوري وتعتبر نفسها في “حالة حرب دائمة ضد كوبا،” شهدت انقساما ايضا عبر عنه الرئيس اوباما بانه “صراع بين جيل القدامى وجيل الشباب؛” اذ يعتقد الجيل القديم انه يستحق وصف السجناء السياسيين، وهو الذي تربى على شيطنة الرئيس فيدل كاسترو، وانه لا يجوز للولايات المتحدة الاقدام على اتخاذ اي خطوة من شأنها ان تؤدي لاضفاء الشرعية على الحكومة الكوبية. اما “اولاد المهاجرين الكوبيين لا يتبنون تلك النظرة المتشددة لآبائهم .. بل يميلون للاعتدال في كافة مناحي الحياة،” كما وصفها بعض المراقبين المختصين بشؤون الجالية الكوبية ومراقبة مسار سجلات تصويتها في الانتخابات الاميركية.
واوضح اولئك الاخصائيين ان “المؤسسة السياسية للكوبيين الاميركيين لم تعدل اي من مواقفها حول التعامل مع كوبا، بيد انها لم تعد تتحدث بالنيابة عن المهاجرين الكوبيين بشكل عام.” للدلالة على التحولات المذكورة، نشرت جامعة فلوريدا الدولية نتائج استطلاع للرأي اجرته في فصل الصيف المنصرم في مدينة ميامي الكبرى التي دلت على ان “غالبية الاميركيين الكوبيين يؤيدون انهاء حالة الحصار في واقع الأمر – سيما فئة الوافدين منذ عام 1995 الاشد حماسة للمطالبة بانهاء الحصار، (اذ) اعرب نحو 90% منهم عن تأييده لتطبيع العلاقات” بين البلدين.
احجم الرؤساء الاميركيين منذ بدء الحصار على كوبا التصدي او الحد من تهوّر الكوبيين الهاربين وارتكابهم اعمال معادية ضد كوبا. الكاتبة الاميركية التقدمية، أليس ووكر، وصفت نزعة الجبن وقلة الحيلة بالقول “عدد من زعمائنا ينظر الى الجالية الكوبية المحافظة في فلوريدا، والتي تتضمن القتلة والارهابيين، انها بمجموعها تشكل زخما انتخابيا.” (كتاب الهاوية الجذابة، )2004
مسألة الاستحقاقات السياسية في الجولة الانتخابية القادمة ايضا كانت حاضرة بقوة في ردود الفعل المختلفة، خاصة اعلان نجل الرئيس الاسبق جورج بوش الاب، جيب بوش، نيته الترشح للانتخابات الرئاسية عن الحزب الجمهوري، في اليوم السابق لاعلان الرئيس اوباما، واصطفاف الطامعين في الترشح لا سيما ذو الاصول الكوبية، ماركو روبيو. يذكر ان بوش وروبيو يمثلان ولاية فلوريدا، وترشح بوش يهدد حظوظ روبيو بشكل خاص، ليس لانتمائه العائلي فحسب، بل لسجله وانجازاته اثناء توليه منصب حاكم الولاية.
معركة اسقاط ورفع العقوبات استغلت دوما ككرة سياسية يتجاذبها الحزبين وما بينهما من اراء وتوجهات لتحقيق نصر آني او الشعور به. والمسألة الكوبية تعد باحتدام المعركة لتنافر مصالح الطرفين، الديموقراطي والجمهوري.
من المتوقع ان يشكل عامل انخفاض اسعار النفط قاعدة تبرير قوية لعدم المساس باجراءات العقوبات القائمة ضد كوبا، يعززه دعم روسيا وفنزويلا لكوبا واللتين استهدفهما مباشرة القرار السياسي بتخفيض سعر النفط. في ظل اشتداد الحملة الاميركية على روسيا وفنزويلا تحديدا سيضغط انصار استمرار العقوبات باتجاه المضي فيها الى ابعد مدى بغية الحاق اكبر قدر من الضرر باقتصاد ونفوذ البلدين، جسدته واشنطن بتصعيد اجراءات المواجهة ضد فنزويلا بالتزامن مع اعلان انفتاحها على كوبا، او تراجعها بشكل ادق.
يجادل المتطرفون في الحزبين بضرورة ابقاء العقوبات سارية المفعول التي من شأنها الضغط على كوبا لادخال اصلاحات ليبرالية على نظامها السياسي والاقتصادي لفتح باب حضور الشركات الاميركية على مصراعيه، لاول مرة منذ خمسة عقود، كما يعتقدون.
العقوبات الاميركية لها بعد يخص السلطة التشريعية والذي لا يملك الرئيس اوباما خيار غض الطرف عنه، سيما امام جدل التيارات المتشددة لابقاء العقوبات بأن تطبيع العلاقات دون الحصول على تفويض او موافقة من الكونغرس يشكل انتهاكا للقوانين الاميركية الخاصة بتشديد العقوبات على كوبا: قانون ليبرتاد لعام 1996؛ قانون ديمقرطة كوبا لعام 1992؛ قانون الثنائي هيلمز-بيرتون؛ وقانون حظر الاتجار مع العدو. قانون الثنائي هيلمز-بيرتون ينص على تقييد انشاء علاقات ديبلوماسية مع هافانا باشتراط اطلاقها سراح كافة السجناء السياسيين واقامة انتخابات حرة.
بالمقابل، ليس هناك نص قانوني يترتب عليه صراع الصلاحيات بين السلطتين ان لجأ الرئيس اوباما لتطبيق رمزي بطيء للقوانين المذكورة الخاصة بكوبا. مثلا باستطاعة الحكومة الاميركية غض الطرف عن معاقبة الشركات الاميركية التي تنشط التبادل التجاري مع كوبا دون التهديد بانتهاكها القانون. بيد ان الطرف الآخر استبق توجه الرئيس اوباما وحفز السلطة القضائية على اصدار قرار ملزم يقر بانتهاك الرئيس اوباما للدستور عند لجوئه لاستخدام صلاحية اصداره قرارات رئاسية عوضا عن السلطة التشريعية.
وقال القاضي الفيدرالي آرثر شواب، في مقاطعة بنسيلفانيا، ان قرارات الرئيس اوباما الخاصة بالهجرة غير صالحة وهي بمثابة “تشريعات” صادرة عن السلطة التنفيذية.
الكونغرس يتسلح دوما بسيطرته على اقرار الميزانية ويلوح باستمرار استخدامها لافشال سياسات الرئيس اوباما، خاصة في ظل سيطرة الحزب الجمهوري على مجلسي الكونغرس بدءا في مطلع العام الجديد. يضاف الى ذلك ان مجلس الشيوخ يحتفط بالحق الحصري للمصادقة على تعيين السفراء الاميركيين، ومن المستبعد ان يلبي توجه الرئيس اوباما تعيين سفير مقترح للسفارة الاميركية في هافانا.
في ظل هذا الوضع المتشابك والمليء بالمواجهات المقبلة والحادة بين السلطتين يطرح سؤال مشروع حول الى ما يستند اليه الرئيس اوباما من اوراق ضغط تخوله المضي بالمواجهة، خاصة في ظل حشد اعلامي وسياسي متصاعد يندد بفشل سياساته الخارجية وتراجع الدعم لبرامجه الداخلية؛ اضافة لولعه بانجاز شيء ما ملموس قبل نهاية ولايته الرئيسية يضاف لرصيده وارثه السياسي. في هذا السياق يمكن المرء استيعاب “استدارته” نحو تطبيع العلاقات مع كوبا والتقدم في مفاوضات التوصل لاتفاق مع ايران.
البابا والفاتيكان لخدمة السياسة الاميركية
يشير البعض الى رغبة الرئيس اوباما باصلاح ما تردى من علاقات مع حاضرة الفاتيكان، لا سيما ابان عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن، الأمر الذي يضفي أهمية استثنائية على حرص الرئيس اوباما اللجوء لنفوذ الفاتيكان الطاغي في اميركا اللاتينية تحديدا، وتوظيفه في اصلاح العلاقات مع كوبا. ولم يتأخر بابا الفاتيكان، اذ بادر بمخاطبة رؤساء البلدين وعرض استضافته لمحادثات ثنائية لبحث الملفات العالقة بينهما.
كما لا يجوز اغفال أهمية عامل الفاتيكان ودعمه للرئيس اوباما في حشد تأييد، او تحييد المعارضة، داخل المشهد السياسي الاميركي، سيما وان الحبر الاعظم الحالي يتمتع بتأييد نحو 68% من الكاثوليك الاميركيين. المنفعة متبادلة ايضا، اذ تعززت سيطرة البابا فرانسيس على الكنيسة الكاثوليكية، التي بدأت تشهد بعض الانقسامات والتباين في دعم سياسة الفاتيكان في عدد من المواضيع الاجتماعية “الشائكة،” لا سيما الموقف من المثليين جنسيا. فضلا عن ما يوفره النفوذ المتجدد للحبر الاعظم التدخل سياسيا في اميركا اللاتينية.
شغل البابا فرانسيس (خورخي ماريو بيرغوغليو) اعلى مرتبة كنسية في الارجنتين خلال حكم الطغمة العسكرية في البلاد، 1976-1983، والدور الذي لعبه وزير الخارجية الاسبق هنري كيسنجر في الانقلاب العسكري بقيادة الجنرال خورخي فيديلا برعاية وكالة الاستخبارات المركزية، والذي اطاح بحكومة ايزابيل بيرون.
تخلى المجلس العسكري عن السلطة، 1983، لصالح الرئيس المنتخب راؤول ألفونسين الذي انشأ لجنة تقصي الحقائق لكشف النقاب عن “الحرب القذرة” وجرائمها بحق القوى التقدمية والعمالية والطلبة؛ وكذلك الجرائم التي نفذت في اطار “عملية كوندور – النسر الاميركي،” شارك فيها مختلف النظم الديكتاتورية في اميركا اللاتينية باشراف واشنطن واجهزتها المختلفة لمطاردة وتعذيب واغتيال واختفاء عشرات الآلاف من معارضي الانظمة العسكرية، بمن فيهم الكهنة والراهبات المعارضين للحكم العسكري.
ادانة الديكتاتورية العسكرية، وانتهاكاتها لحقوق الانسان بشكل خاص، كان من المحرمات داخل الهرم القيادي للكنيسة الكاثوليكية الذي دعم المجلس العسكري بالكامل مقابل معارضة القاعدة الشعبية.
في عام 2005، قدم المحامي في مجال حقوق الانسان ميريام بريغمان دعوى جنائية ضد “الكاردينال خورخي بيرغوغليو” متهما اياه بالتآمر مع المجلس العسكري في عملية خطف اثنين من الكهنة اليسوعيين المعارضين للحكم العسكري، عام 1976. تلاه اتهام الناجين من “الحرب القذرة” علنا “الكاردينال خورخي بيرغوغليو” بالتواطؤ في خطف الكهنة فرانسيسكو خاليكس و اورلاندو غوريو، اضافة لستة اعضاء من “رعيتهم،” اربع مدرسات واثنين من ازواجهن.
الكاهن المختطف غوريو اطلق سراحه بعد خمسة اشهر، واتهم بيرغوغليو مباشرة بتسليم المجموعة لفرق الموت. بل الاهم ما ورد على لسان يوريو خلال محاكمة قادة المجلس العسكري عام 1985، اذ قال “انا واثق من انه نفسه (بيرغوغليو) اعطى قائمة باسمائنا للقوات البحرية ..” التي احتجزتهم في مدرسة تابعة لهم – ESMA بالقرب من بوينيس آيرس.
جدير بالذكر، لمن يهمه الامر، ان بيرغوغليو “استخدم حقه برفض المثول امام المحكمة المدنية بموجب القانون الارجنتيني .. وعندما ادلى بشهادته عام 2010 كانت اجاباته مراوغة.” فضلا عما ورد في مذكرة سرية للحكومة العسكرية، ادرجت سجلات المحكمة لاحقا (تاريخ 24 ايار 1976)، اكدت ان “الاب بيرغوغليو اتهم الكاهنين (خاليكس و غوريو) باقامة اتصالات مع العصابات الثورية .. ورفضا الانصياع” لتعليماته.
ما ورد شكل قمة جبل الجليد في تواطؤ هرم الكنيسة الكاثوليكية مع الديكتاتورية العسكرية، شهد عليها الجنرال خورخي فيديلا، الذي يقضي الان حكما بالسجن مدى الحياة، في مقابلة صحفية جاء فيها “بقي التنظيم الهرمي الكاثوليكي في البلاد على علم بسياسة النظام الخاصة باختفاء المعارضين السياسيين، وقدم الزعماء الكاثوليك النصيحة (للمجلس العسكري) بشأن كيفية ادارة المسألة.”
لمزيد من توضيح تواطؤ الكنيسة مع الطغم العسكرية، لعب الفاتيكان تحت رعاية البابا بولس السادس والبابا يوحنا بولس الثاني (البولندي) دورا محوريا في دعم المجلس العسكري الارجنتيني
في الشق المقابل، لا ينبغي اغفال ما تمثله النزعات التحررية وارساء النظم الاشتراكية في عموم القارة الجنوبية من اهمية بالغة وانتهاج قادتها سياسة اقتصادية وسياسية بمعزل واستقلالية عن واشنطن. وربما شكل ذلك احد اهم العوامل التي ادت لترشيح البابا فرانسيس، لمنصبه الحالي كي يتولى مهمة الاطاحة بالنظم الاشتراكية (فنزويلا وكوبا وبوليفيا) وتقويض استقلال البرازيل وبلدان اخرى في اميركا اللاتينية واعادتها لتبعية حظيرة اليانكي الاميركي، اسوة بما اوكل من من مهمة مشابهة للبابا يوحنا بولس السادس، بولندي المولد، ودوره البالغ في تفتيت النظم الاشتراكية في بولندا واوروبا في عقد الثمانينيات من القرن الماضي.
ينظر للبابا الحالي (ومن وراءه) بأنه يحاول جاهدا تقديم صورة متواضعة وشعبوية لموقع الحبر الاعظم تؤدي الى تبييض صفحته السابقة التي تعرضت للانتقاد في الارجنتين وتشكيل رأس حربة القوة الناعمة على المسرح الدولي.
التداعيات السياسية لانفتاح اوباما
اذا نظرنا الى اعلان الرئيس اوباما بالانفتاح على كوبا من منظار استدرار عطف وتأييد الجالية الكوبية المهاجرة في اميركا، فلن يسعفه الامر في ظل تشبث القوى التقليدية المسيطرة داخلها بمواقفها المعادية والرافضة لتطبيع العلاقات مهما كلف الأمر، والمتآمرة على وحدة وسيادة بلدها الأم. بل تنطح احد اهم زعماء الحزب الديموقراطي ورئيس لجنة العلارقات الخارجية في مجلس الشيوخ، بوب مننديز، ذو اصول كوبية ايضا، لقرار رئيس حزبه واتهمه بانه بذلك “يبرر السلوك الوحشي للحكومة الكوبية.” واضاف ان هذه “الصفقة غير المتماثلة ستستنهض المزيد من مشاعر العداء ضد حركة المعارضة الكوبية (وتسهم) في تقوية سيطرة الحكومة الديكتاتورية على مواطنيها.”
نظيره الجمهوري، ماركو روبيو، وعضو لجنة مننديز للعلاقات الخارجية اعتبر الخطوة “عبثية،” والرئيس “اوباما اسوأ مفاوض في منصب الرئيس منذ (الرئيس) جيمي كارتر على اقل تعديل.” وزعم روبيو ان الكونغرس لا يؤيد رفع الحصار عن كوبا، مهددا باستخدام الجمهوريين نفوذهم في اقرار الميزانيات وحجب التمويل عن البعثة الديبلوماسية الاميركية في هافانا وعدم المصادقة على تعيين سفير اميركي هناك.
ينبغي النظر الى ذلك المشهد في سياق التنافس على الانتخابات الرئاسية المقبلة، 2016، ومراهنة الجمهوريين على توظيف عداء الجالية الكوبية في فلوريدا لتطبيع العلاقات لصالح مرشحيهم. ولاية فلوريدا تعد من بين الولايات بالغة التأثير والأهمية وبامكانها التأرجح في تأييد الحزبين، كما شهدت “عمليات التزوير المنظم” التي ادت لفوز المرشح جورج بوش الابن في ولايته الاولى.
الضلع الثالث في المثلث الكوبي المتشدد داخل الكونغرس، تيد كروز، ايضا شارك في حملة انتقاد قاسية للرئيس اوباما واتهامه بعدم الاتعاظ من “مساعي تقارب ادارته مع نظم مارقة مثل روسيا وايران، والتي ادت الى تقلص النفوذ الاميركي وتشجيع اعدائنا.” يذكر ان والد السيناتور كروز اضطهد وعذب لمناهضته نظام باتيستا العميل، والتحق للقتال مع فيديل كاسترو، وترك الساحة اراديا عام 1957.
الثنائي من اصول كوبية، كروز وروبيو، ينتهزان كل فرصة متاحة للتعبير عن نيتهم الترشح للانتخابات الرئاسية، والتي سيراهن كليهما على نيل دعم وتأييد الجالية الكوبية المعادية للتطبيع، خاصة المقيمة في ولاية فلوريدا، وادراكهما المشترك للأهمية البالغة للولاية وحجم ممثليها الكبير من المندوبين للمؤتمر السنوي للحزب الجمهوري.
الدورة المقبلة لمجلس الشيوخ، تحديدا، تنذر بمزيد من المتاعب والعقبات السياسية امام الرئيس اوباما، خاصة عند الاخذ بعين الاعتبار ان ماركو روبيو سيتسلم رئاسة اللجنة الفرعية للعلاقات الخارجية لشؤون اميركا اللاتينية، وستعزز مكانته لابطاء او التعرض لبند اقرار ميزانية السفارة الاميركية وتعيين السفير لدى هافانا، اللذين سيجري تداولهما داخل لجنته في المرحلة الاولى.
في الشق الدستوري الصرف، يستمر العمل بقوانين المقاطعة ضد كوبا؛ بيد ان نفوذ القطاع التجاري الطاغي داخل الحزب الجمهوري قد يؤدي لبروز صيغة للتبادل التجاري بما يضمن عدم انتهاك صريح للقوانين الاميركية؛ او الانتظار لحين مغادرة الرئيس اوباما منصبه للحصول على شروط افضل، سياسية وتجارية.
كوريا الشمالية تكسب جولة في حروب العالم الافتراضي
حظيت مسألة قرصنة احدى كبرى شركات الانتاج السينمائي، سوني، باهتمام اعلى المستويات السياسية – على خلفية بدء عرض فيلم سينمائي، “ذي انترفيو،” يسخر من كوريا الشمالية ويسفّه قيادتها. كوريا الشمالية اوضحت معارضتها وحذرت شركة سوني منذ بضعة اشهر من المضي بعرض الفيلم. تحدي شركة سوني كلفها تعرض اجهزتها التقنية والسيطرة عليها من قبل قراصنة الكترونيين يشتبه انهم يتبعون كوريا الشمالية.
اميركا الرسمية سارعت لتوجيه التهمة مباشرة للحكومة الكورية، بدءا بقمة الهرم السياسي في البيت الابيض، ومرورا باجهزة الاستخبارات، مكتب التحقيقات الفيدرالي، دون عناء توفير الادلة المادية. بالمقابل، شككت بعض المؤسسات الاعلامية، من بينها صحيفة لوس انجليس تايمز، بصدقية الاتهام والرواية المعتمدة متسائلة “ماذا لو لم تكن (مسؤولية) كوريا الشمالية؟” (19 كانون الاول)؛ موضحة “في عالم القرصنة والقرصنة المضادة فان التوصل لنتائج معينة لا يحظى بالاجماع .. سيما وان جزءا كبيرا من الادلة المقدمة ضد كوريا الشمالية هي ادلة ظرفية” في افضل الاحوال. وحثت الجميع على “توخي الحذر، سيما وان بعض اخصائيي القرصنة الالكترونية ارتابهم الشك (بالرواية المتداولة) ولا زالوا كذلك.”
الدوائر الرسمية والاجهزة الاعلامية الاميركية المختلفة اخذت على حين غرة لقدرة كوريا الشمالية التقنية المتطورة، والتي لا زالت بمجموعها تعاملها بنظرة دونية. يشار الى تقرير تقني اصدرته شركة “هيوليت باكارد” الاميركية، مطلع العام الجاري، “حذر” فيه من التقدم السريع لتقنية كوريا الشمالية معتبرا انها تحتل المرتبة الثالثة عالميا، بعد الولايات المتحدة وروسيا، في مجال تقنية القرصنة الالكترونية. واوضح بالنظر الى القيود المتشددة المفروضة على شبكة الانترنت داخل كوريا الشمالية، فان هجماتها تشن من خارج البلاد – يعتقد انها من مقاهي الانترنت العامة في الغالب؛ ويضم الفريق التقني نحو 6،000 اخصائي.
واردف التقرير المفصل ان كوريا الشمالية “تستغل الثغرات التقنية في برامج الالعاب الالكترونية للاستفادة المادية وشن هجمات الكترونية.” واشار ايضا الى حادثة القاء سلطات كوريا الجنوبية على فريق مكون من خمسة افراد بتهمة التعاون مع كوريا الشمالية “للقرصنة واختلاس اموال عبر الالعاب الالكترونية، خاصة اللعبة الجماعية “لينياج.” ” واضافت لائحة الاتهام ان الطاقم شكل فريقا متقدما لكوريا الشمالية لتلويت اجهزة كمبيوتر كوريا الجنوبية ببرامج الفايروس الالكترونية الضارة.
يشار الى ان كوريا الشمالية اجرت تجارب على “قنبلة مبرمجة” عام 2007، تضمنت تعليمات الكترونية تنفذ وفق معلومات محددة، مما دفع بالامم المتحدة استصدار قرار يمنع بيع اجهزة ومكونات الكترونية معينة لكوريا الشمالية.
يشار ايضا الى حالة القلق البالغة لكوريا الجنوبية من جارتها الشمالية تجسدت في تقرير اعده ضابط في البحرية لكوريا الجنوبية، داك-كي كيم، قائلا “سيعمد نظام كوريا الشمالية لشن هجمات الكترونية متزامنة ومتعددة ضد المجتمع والبنى التحتية الاساسية لكوريا الجنوبية، والدوائر الحكومية، ومراكز التحكم العسكرية الاساسية وفي نفس الوقت اعاقة جهود حكومة كوريا الجنوبية وحلفائها المحليين (باستخدام) اسلحة نووية.”
الثابت ان الهجوم الالكتروني على شركة سوني المنسوب لكوريا الشمالية ليس الاول من نوعه، اذ استطاعت اختراق 33 مقرا لشبكات الاتصال اللاسلكية لكوريا الجنوبية من مجموع 80 موقعا، عام 2004؛ اضافة لهجوم الكتروني استهدف وزارة الخارجية الاميركية يعتقد انه تم بموافقة المسؤولين في كوريا الشمالية، تزامن مع بدء جولة محادثات ثنائية لبحث تجاربها على صواريخ نووية. ووجهت كوريا الجنوبية اتهاما آخرا بعد نحو شهر من تلك الحادثة تزعم فيه ان جارتها الشمالية اخترقت شبكات وزارتي الدفاع الاميركية والكورية الجنوبية.
في عام 2009 لجأت وزارة المالية الاميركية وهيئة التجارة الفيدرالية لاغلاق مواقعهما الالكترونية لبضعة ايام عقب اكتشاف انتشار فيروس الكتروني استهدف ايضا بعض المواقع الالكترونية في كوريا الجنوبية، مما ادى لشل حركة عدد من المواقع الرسمية والمؤسسات الاعلامية في كوريا الجنوبية. كما اسفر هجوم الكتروني آخر شن في آذار 2011 عن تعطيل خدمات الصرف الآلي لنحو 30 مليون فرد في كوريا الجنوبية لبضعة ايام، رافقه قرصنة وتعطيل عمل نحو 48،000 جهاز وشبكة كمبيوتر تخص مصارف كوريا الجنوبية ومؤسساتها الاعلامية.
نائب رئيس شركة “ماكافي” الضخمة لبرامج الحماية من الفايروسات، ديميتري البروفيتش، علق على تلك الهجمات قائلا انها تحمل علامات :تجارب حرب الكترونية لكوريا الشمالية، معربا عن اعتقاده ايضا ان الحكومة الشمالية استطاعت انشاء “جيش من اجهزة القرصنة” هدفها نشر البرامج الالكترونية الضارة.