الأنموذج التركي حميدي العبدالله
منذ فترة طويلة، وتحديداً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وزوال خطر الشيوعية على الأنظمة الرأسمالية، دأبت آلة الإعلام الغربي على نشر مفاهيم تساعد على تكريس الهيمنة الغربية، وإعادة إحياء الاستعمار بكلّ أشكاله وصيَغه، القديمة والجديدة، القديمة متمثلة بالاحتلال العسكري المباشر وبناء القواعد العسكرية، ولعلّ عودة القاعدة البريطانية إلى البحرين في منطقة شرق السويس لأول مرة بعد الانسحاب من المنطقة عام 1968 أحدث دليل على ذلك، والاستعمار الجديد متمثلاً بالهيمنة الاقتصادية وفرض الوصاية والتبعية على عدد كبير من الدول في أفريقيا وآسيا.
وفي سياق خلق واقع استعماري راسخ، وتماشياً مع مستوى وعي الشعوب، حاولت آلة الإعلام الغربية تقديم نفسها لشعوب العالم على نحو مختلف جزئياً، إذ أنّ شعارات «تمدين» العالم المتخلّف التي كانت وراء الموجة الاستعمارية الأولى ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر والتي استمرّت حتى الحرب العالمية الثانية، استبدلت بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكان التركيز دائماً على المنطقة العربية، حيث الغالبية الإسلامية، وحيث تتركز المصالح الغربية متمثلة بالثروة النفطية، وبموقع المنطقة الهام على مستوى الجغرافية السياسية.
في سياق الحملة الإيديولوجية والسياسية التي اعتمدها الغرب لتمهيد الطريق وخلق الظروف الملائمة لإحكام هيمنته وسيطرته على المنطقة سياسياً والتحكّم بثرواتها، كان التركيز على خلق «أنموذج» لما بات يُعرف بالإسلام المعتدل، أنموذج لدولة إسلامية تستخدم الدين وسيلة لخدمة المصالح الاستعمارية، وكان واضحاً أنّ دول «الإسلام السياسي» التقليدية ممثلة بالدرجة الأولى بالمملكة العربية السعودية، غير مؤهّلة للعب هذا الدور وحمل هذه الراية، لأسباب متنوّعة أبرزها صعوبة تبنّي النظام للمفاهيم الغربية، واعتماد أيّ شكل من أشكال الديمقراطية، لما يمثله ذلك من خطر على استقرار النظام. فوقع الاختيار على تركيا، وتحديداً على حزب العدالة والتنمية بزعامة الثنائي أردوغان غل، وكانت الحسابات لدى الغرب بأنّ تركيا تملك مؤهّلات دون أيّ دولة إسلامية أخرى لتكريس نموذج للإسلام المعتدل المتحالف مع الغرب، والقابل لعلاقات التبعية كما تريدها الحكومات الغربية، ولا سيما الإدارة الأميركية.
لا يبدو الآن وبعد وضع الرهانات الغربية موضع التطبيق، أنّ تركيا حزب العدالة والتنمية في ظلّ زعامة أردوغان مؤهّلة للعب دور الأنموذج ضمن المعايير الغربية، وقد مثلت التجربة الأخيرة لحزب العدالة والتنمية ضربة قوية للرهانات الغربية، تجسّدت بسلوكين أثارا قلق الحكومات الغربية، الأول العلاقة الملتبسة بين تركيا أردوغان وتنظيمات القاعدة. صحيح أنّ هذه العلاقة بدأت بموافقة، أو على الأقلّ غضّ نظر غربي، إلا أنها تحوّلت إلى علاقة خارج نطاق الحسابات الغربية، وهذا بات يقلق الحكومات الغربية، ويضاعف خشيتها من احتمال أن يكون أردوغان يتعاون مع هذه الجماعات لحسابه وليس ضمن الحدود والسياق الذي وضعته الاستراتيجية الغربية. الثاني سياسة حزب العدالة وانقلابها على المسار الديمقراطي والجنوح نحو الديكتاتورية، وتفشي كلّ أمراض تركيا المزمنة، من الفساد إلى التضييق على الأحزاب، وملاحقة الصحافيين والناشطين، والتعرّض لمرتكزات النفوذ الغربي الفكرية التي راهنت عليها في إنتاج أنموذج إسلامي متعاون، مثل جماعة فتح الله غولين، الأمر الذي يشكل نهاية أسطورة الأنموذج التركي.
(البناء)