حروبٌ بالشعوب..وعلى الشعوب ، لعبٌ بالنار . حسن شقير
ما إن انتهى زمن الحروب التقليدية التي تشنها دول مقتدرة على دول مفتقرة ، وذلك مع بزوغ فجر أنظمة الدفاع اللاتقليدية والفعالة ، والتي اعتمدتها الدول المغزوّة للدفاع عن سيادتها بوجه الدول الغازية ، حيث كانت المقاومة الشعبية وحروب العصابات أبرز وسائلها …. حتى بدأت هذه الدول الإستكبارية – والتي لا يمكن لها العيش ، إلا ّ من خلال الغزو والإستعمار والإستغلال لمقدرات الشعوب والدول الأخرى – بالتفكير بطرق وأساليب جديدة تخرج بها ، ومن خلالها ، من دائرة الفشل في تحقيق مأربها وأطماعها بواسطة الحروب التقليدية ، وكذا للتخلص من نجاعة المواجهة اللاتقليدية ، والتي استطاعت عبرها تلك الدول المستضعفة ، على الحفاظ على سيادتها وثرواتها وقرارها السياسي والإقتصادي الحر .. ومن دون أن تصبح مضطرة لدفع أثمان سياسية مفترضة في حال خلاف ذلك …
لقد كانت أمريكا ومعها الكيان الصهيوني في مقدمة تلك الدول ” الرائدة ” في غزواتها للدول وللشعوب المستضعفة ، وبحجج وذرائع مختلفة … الأمر الذي فرض على كل أولئك ، بأن تكون أليات المواجهة لديهم لا تقليدية ..والتي أدت فيما أدت إليه ، من تداعيات استراتيجية على الفكر الإستراتيجي ، وذلك في مقلبي الغزاة والمغزيين ، على حد سواء .
لقد فرضت تلك التداعيات إذاً ، على الفكر الإستعماري لتلك الدول الرافضة لقبول الواقع المستجد ، والقائم على انتزاع المُستٓعمرين لقرارهم السيادي ، على كافة الصعد .. بأن أصبح هذا الفكر ، أكثر تحفزاً لإبتكار أشكال جديدة من الحروب ، تتوسط الحروب الخشنة المنهزمة ، والحروب الناعمة المأزومة ، والتي يمكن لها – باعتقاد من تبناها وسار بها – أن تحقق أهداف سابقتيها ، وبأقل الخسائر الممكنة … والتي يمكن عنونتها بالحرب بالشعوب على الشعوب ، وعلى حد سواء .
زمن الحروب الشعبية .. والنتائج
لقد كانت الحرب الأمريكية على العراق في عهد صدام حسين ، أنموذجاً حياً لهكذا نوعٌ من الحروب ، فلقد جرى تأليب بعض شرائح المجتمع العراقي على بعضه ، وبألاعيب أمريكية بارعة مع الأسف ، جعلت من بعض العراقيين ، يرون في أمريكا طوق النجاة الأتي إليهم !! وقد حصل ما حصل في عراق ما بعد صدام حسين .. وهكذا الأمر أيضاً في الحرب التي فُرضت على سوريا ، والتي شارف عامها الرابع على نهايته …وقد جرى ما جرى عليهما وعلى شعبيهما على حد سواء .
لم تقف النيو حروب الأمريكية ، ومعها بعض الدول التابعة لها في المنطقة ، على الشعوب وبالشعوب عند هذا الحد ،
إنما تعداها الأمر إلى وجه أخر لها ، عنوانه تغذية الطبقية والقهر ، وذلك من خلال الفرز بين فئات المجتمع الواحد ، وعلى مختلف المستويات والأصعدة ، وصولا ً إلى فرض أجندات خارجية بأدوات داخلية على تلك الفئات المهمشة قسراً وقصداً في هذه الدول … و ما جرى في الفترة السابقة على الحوثيين في اليمن ، خير مثال على ذلك …
لم تكن الفترة الفاصلة في لبنان بين تاريخ اغتيال الرئيس الحريري في العام ٢٠٠٥ ، والعام ٢٠٠٨ ، بعيدة عما نتحدث عنه في هذه العجالة ، فلقد حوصرت في هذه الفترة شرائح شعبية وازنة ، من خلال اتهامها بأنها تحوي وتحتضن أحزابا وتيارات تمتهن القتل والارهاب السياسي لكل مخالف لها بالرأي ، فلم تبقى جريمة حدثت في تلك الفترة ، إلا ّ وألصقت بتلك الشرائح ، وقد كان الإيعاز الأمريكي ، وملحقاته في المنطقة ، حاضراً بقوة في كل ذلك .. وقد تم الاعتراف سابقاً من قبل السفير الأمريكي في لبنان في حينه جيفري فلتمان – وذلك لما كشفته ويكلكس – بإنفاق أمريكا مئات الملايين من الدولارات في خدمة أهداف التأليب والحصاروالتشويه لتلك الأحزاب وبيئاتها الحاضنة على حد سواء !
لم تكن إيران بعيدة عن نموذج هذه الحرب الأمريكية الناعمة ، وذلك عندما حاول الأمريكيون استغلال الأحداث التي أعقبت انتخابات الرئاسة في العام ٢٠٠٩ ، وعندما فشلوا في شق الصف الإيراني ، واحداث الشرخ في المجتمع الإيراني ، لجأوا – عبر كيدهم مع بعض حلفائهم في المنطقة – إلى حرب خفية جديدة – قديمة على مختلف شرائح الشعب الإيراني ، وذلك عبر لعبة تخفيض أسعار النفط العالمية ، والتي تحدثنا عنها مفصلا ً في مقالة ” أفاق الحرب السعوأمريكية على إيران وروسيا .. والتداعيات ” .
وكأن أمريكا ومعها هذه الملحقات التابعة ، لم. تتعظ من نتائج تلك النماذج الحية من هذه الحروب الشعبية ، ففي العراق ، وبعد مضي أكثر من عشر سنوات على الغزو الأمريكي له ، تاريخ إطلاق العنان لهذه الحرب الشعبية فيه ، وجدت هذه الشرائح الشعبية بمختلف اتجاهاتها وتلاوينها اليوم – وخصوصاً بعد غزو الإرهاب الداعشي له – أنها جميعاً قد وقعت ضحية فخ أمريكي كبير جداً ، لم يكن بوارد رفع الضيم والغبن السياسي عن فئة شعبية بعينها ( كما حدث بعد سقوط صدام ، وكما يحدث اليوم على النقيض بعد غزو الدواعش ) ، إنما كان الهدف الحقيقي الأمريكي بقاء الإحتلال المقنع وغير المقنع لأرض الرافدين ، ولأمد يطول معه الزمن ….لأجل ذلك فإنها اليوم تقوم باللعب على ورقة العشائر لإستكمال حربها تلك !! وذلك على أمل إبقاء العراق أو حتى أي جزء منه ، ضمن الحضن الأمريكي ، والذي تكشفت عوراته وعلاته عند كل أولئك ، مما جعل اللعب بكارت الحرب الشعبية – المأمولة أمريكياً – محروقاً قبل رميه في السوق العراقية .
لم تكن حال نتائج حرب أمريكا الشعبية في سوريا ، بأفضل حال من سابقتها العراقية ، فلقد لعب الدواعش بكافة تلاوينهم ( العامل الحيوي الإستراتيجي الأول لأمريكا ) ، إدواراً عكسية لما كانت تؤمله أمريكا من فرز ديموغرافي وجغرافي تمنت حدوثه في سوريا ، فبدلا ً من تنفيذ هؤلاء لمأرب أمريكا ، كانوا – وبفعل حقدهم الأعمى وأفعالهم الشنيعة والمشينة ،إضافة إلى غبائهم وأطماعهم السياسية – سباقين لعودة بعض من الشرائح الشعبية السورية إلى رشدها السياسي والإجتماعي … مما جعل أمريكا تخسر الحرب الشعبية الكبرى في سوريا ، على الرغم من أنها تنتصر بجولات محدودة فيها بين الحين والأخر .
لم تحصد أمريكا بحروبها الشعبية تلك ، إن في لبنان ، أو في اليمن ، إلا ّ مزيداً من الخيبات تلو الخيبات … ففي لبنان ، كانت أحداث السابع من أيار في العام ٢٠٠٨ ، وما لحقها من أحداث وتطورات في هذا البلد ، إلا ّ إيذاناً بفشل أهداف تلك الحرب الأمريكية في لبنان ، والتي امتدت لسنوات ثلاث على التوالي … أما أحداث اليمن الأخيرة وتمدد الحوثيين فيه ، وفرضهم لإتفاق السلم والشراكة الأخير على بعض من أعمدة أمريكا وأعوانها في اليمن … ما هو إلا ّ دليل ساطع على النتائج العكسية لأهداف الحرب الأمريكية تلك .
تطوير الحروب الشعبية .. تداعيات محتملة
طورت أمريكا وملحقاتها في المنطقة لحروبها الشعبية تلك ، إلى حروب شاملة على الشعوب بكاملها ، فها هي أمريكا وأوروبا والمملكة العربية السعودية تعلن الحرب بالمواربة على كامل الشعبين الروسي والإيراني ، وذلك من خلال تخفيض أسعار النفط ، وكذا على كامل الشعب اليمني بعد إعلان المملكة العربية السعودية وقف مساعدتها لليمن …
لقد تناوب في الفترة الأخيرة كل من المسؤولين الروس والإيرانيين ، على الإدلاء بتصاريح من العيار الثقيل ، حول المغزى الحقيقي لتلك الحرب الشعبية الشاملة … ولقد كان المسؤولون الإيرانيون ، أكثر وضوحاً في التحذير من تداعيات هذه الأخيرة على مطلقيها ، ابتداءً من الرئيس روحاني ومساعد وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان ، وصولا ً إلى الأمين العام لمجلس الأمن القومي علي شمخاني … والتي قاربت التهديد بأن ” شعوب المنطقة سترد على تلك الحرب ” و أن ” بعض دول المنطقة ، قد ساهمت بخطأ استراتيجي أول في بث الإرهاب ، وبالتالي فإن هذه المنطقة لن تحتمل خطأً استراتيجياً ثانياً ”
خلاصة القول ، هذا الكلام الروسي المبطن ، ونظيره الإيراني الصريح ، ربما يؤشران ، إلى أن الحرب بالشعوب على الشعوب ، كانت حتى الأمس القريب لا تزال تحت السيطرة والإحتمال … أما الحرب على الشعوب ، كامل الشعوب ، في هذه المرحلة الحساسة والمفصلية من تاريخها ، ربما ستكون لها نتائج وخيمة على الساحات التي تُرسل لها الإشارات اليوم ، علَّ هذه الأخيرة تُلتقط من بعض الرؤوس الحامية فيها … علّها تبرد ، قبل فوات الأوان ، وانقلاب السحر على الساحر فيها .