كلام الدمار الشامل د. فيصل المقداد
نائب وزير الخارجية السورية
جاء في الكتاب المقدس أنه «في البداية كانت الكلمة»، وجاء في ميثاق منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة أن الحروب تبدأ في عقول البشر، وفي عقول البشر يجب أن تبنى دفاعات السلام». وأنا كما باقي الملايين من البشر، أؤمن بصحة ما ورد في الكتاب المقدس وفي ميثاق اليونسكو. إنَّ كلام السماء والحكماء هو خريطة طريق البشرية إلى الرخاء والسلام والاستقرار. إلاَّ أنَّ الحقيقة تُشير إلى أنَّ البشر ليس كلّهم حكماء، كما أنَّ بعض من يدّعي الحكمة يسيء إلى الحكمة والحكماء. ولسوء الحظ، فإنَّ عالم اليوم الخطير يحفل بالكثير من المدّعين والأفاقين، ويفتقد الكثير من الحكمة والحكماء.
إن الدعوة إلى عالم الكمال، هي دعوة مشروعة، لكننا نعرف أن عالم الكمال هو لله وحده. ومع ذلك فإنَّ سعي البشرية إلى الكمال سيستمر من دون توقّف حتّى نهاية العالم. وهنالك الكثير من المفكّرين والعلماء والفلاسفة الذين سيعتصرون أفكارهم لإنشاء عالم خالٍ ليس من أسلحة الدمار الشامل فحسب، بل ومن الأسلحة التقليدية، من الألغام والصواريخ والديناميت والبنادق وحتّى السيوف والخناجر والأسلحة الذريّة، والأسلحة الكيماويّة، والأسلحة البيولوجيّة.
يحدّثنا تاريخ البشريّة عن كثير من الأحداث الدمويّة التي بدأتْ بكلمة وتطورتْ لاحقاً إلى سلسلة معقّدة من التطورات التي أدّتْ إلى حروب كبرى. ويذكر التاريخ الأدبي العربي أن الشاعر العربي الكبير المتنبي لاقى حتفه بسبب بيت الشعر الذي لم يقبل بالتراجع عنه والذي يقول فيه:
«الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم».
أمَّا حادثة الحجاج بن يوسف الثقفي عند توليه حكم العراق، فإنَّ التاريخ الأموي ما زال يردّدها حتّى الآن.
المشكلة الكبرى التي يواجهها عالم اليوم هي أنَّ الأسلحة التي يمكن استخدامها في حروبه لم تعد تقتصر في نتائجها على فناء عشرات أو مئات أو حتّى آلاف الضحايا، بل إنَّ استخدام قنبلة نووية تكتيكية صغيرة مما يتفنن في صنعه الأميركان و«الإسرائيليين» يمكن أن يؤدّي إلى مصرع وإبادة سكان مدن كبرى. ولا يسع المجتمع الدولي إلاَّ أن يتذكّر أنَّ استخدام الولايات المتحدة لأسلحة الدمار الشامل في هيروشيما وناغازاكي في اليابان قبيل انتهاء الحرب العالميّة الثانية، وهي أسلحة خفيفة بمعايير اليوم، قد أدّى إلى إبادة سكان هاتين المدينتين تقريباً. أمَّا استخدام الولايات المتحدة للأسلحة الكيماوية في حربها على الشعب الفيتنامي فقد ذَهَبَ ضحيته مئات الآلاف من أبناء الشعب الفيتنامي. وهل يمكن للبشرية أن تنسى التجارب النووية الفرنسية في الجزائر والتي ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الجزائريين الأبرياء؟
وتُشير المعلومات الموثّقة بأنَّ أسلحة الدمار الشامل التي تصر «إسرائيل» والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا على الاحتفاظ بها كسلاح ردع الآن، وكسلاح هجومي إذا دعت الحاجة إلى استخدامها، فهي قادرة على تدمير كوكب الأرض بما عليه خمسة أو ستة مرّات خلال دقائق.
ويأتي ممثلو الولايات المتحدة إلى المؤتمرات العالمية الآن، ناهيك عن مؤتمراتهم الصحافية ذات الطابع التمثيلي الهوليودي في أغلب الأحيان، ليعلنوا أنَّهم غير قادرين على تحمّل نتائج ما يرونه من حروب وكلّها، للصدفة، في الدول النامية وأنَّ مسؤولي هذه الدول يجب أن يخضعوا للمحاسبة! يا للكذب والنفاق، لكن من سيحاسب رؤساء أميركا وفرنسا وقادة جيوشهم على الجرائم التي ارتكبوها في اليابان وفي أفغانستان والعراق وباكستان وفيتنام والجزائر وليبيا!؟ والسؤال الهام أيضاً هو: من أشعل فتيل هذه الحروب في هذه البلدان وقام بتمويل وتسليح وإيواء المجموعات المسلحة والمجموعات الإرهابية فيها، وهل سيخضع هؤلاء للمحاسبة؟
وللحقيقة والتاريخ أقول إنَّ الجمهوريّة العربيّة السوريّة رفضتْ منطق استخدام أسلحة الدمار الشامل وأدانته واعتبرتْ أنَّ هذا الأمر لا أخلاقي. وانطلاقاً من هذا الفهم كانتْ سورية من أوائل الدول التي انضّمتْ إلى اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية عام 1968، وساهمتْ في شكل فعّال في كل مؤتمرات مراجعة الاتفاقية وتحسين آليات عملها بما في ذلك خلال مؤتمرات المراجعة عام 1995 وعام 2000 و2005 و 2010 وهي تتابع كل التحضيرات التي تجرى للوصول إلى مؤتمر مراجعة ناجح ومفيد في العام المقبل. وكان الكلام السوري في كل هذه المؤتمراتْ وغيرها كلام سلام وتأكيد على ضرورة إنهاء سباق التسلّح وأهميّة عدم تطوير أسلحة دمار شامل جديدة. وفي هذا الإطار، كان التركيز السوري دائماً على ضرورة إخلاء منطقة الشرق الأوسط من جميع أسلحة الدمار الشامل خصوصاً أنَّ جميع الدول العربية قد انضمت إلى منظومة نزع أسلحة الدمار الشامل ما خلا استثناءً وحيداً لإحدى الدول العربية ونحن ندعم موقفها. وفي الجانب الآخر تمتلك «إسرائيل» جميع أسلحة الدمار الشامل من نووية وكيماوية وبيولوجية والتي تعلن نهاراً جهاراً أنَّها لن تتخلّى عنها، وتدعمها في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا والدول الغربية الأخرى.
في عام 2003 طرحتْ سورية مشروع قرارها الذي أصبح معروفاً لكل الدول لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من جميع أسلحة الدمار الشامل. إلاَّ أنَّ مبادرتها آنذاك اصطدمتْ بالرفض الأميركي والغربي وتهديد هذه الدول باستخدام الفيتو للإجهاض على المبادرة وقتلها. وقد استخدم هؤلاء آنذاك والآن كل كلام الدمار الشامل لمنع تمـــرير المبادرة السوريّة في مجلس الأمن.
إلاَّ أنَّ سورية كشفتْ النوايا الغربيّة ومارستْ أقصى درجات الحكمة والصبر ولم تطرح المبادرة على التصويت لأن الفيتو الأميركي كان بانتظارها. وردّاً على أولئك الذين يستخدمون كلام الدمار الشامل اليوم ويضلّلون من لم يطّلع على المبادرة السوريّة، التي ما زالتْ مطروحة على طاولة مجلس الأمن، فإنَّنا نقول إنَّ تلك المبادرة التي حظيت بدعم جميع الدول العربيّة إضافةً إلى دعم الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة ودولاً صديقة أخرى في مجلس الأمن وخارجه بما في ذلك الاتحاد الروسي، كانتْ ستقود، فور اعتمادها آنذاك، إلى تصفية كل أسلحة الدمار الشامل منذ عام 2003 لو قبلتْ الولايات المتحدة الأميركيّة وحلفاؤها الغربيون بذلك.
في المؤتمر التاسع عشر للدول الأطراف في اتفاقية حظر الأسلحة الكيماويّة الذي عقد مؤخراً في لاهاي، تسابقتْ الدول التي تستهدف سورية إلى إلقاء خطب ناريّة استخدمت فيها كلام الدمار الشامل من الكذب والتضليل والتهويش والإثارة والتخويف حول ادعاءات لا أساس لها عن استخدام سورية لغاز الكلورين في كفر زيتا وقرى أخرى من محافظة حماة. وقد أصبح من الثابت لنا وللكثير في المجتمع الدولي العاقل، أنَّ الجماعات الإرهابيّة المرتبطة بأجهزة أمن تركيّة وسعوديّة وأميركيّة وفرنسيّة هي التي تقوم بمثل هذه الأعمال المنحطّة والمُدانة بهدف وحيد وهو استمرار تشويه صورة الحكومة السوريّة ومكافحتها التي لا تهاون فيها مع الإرهاب واستخدام ذلك كأداة للابتزاز على المستويين الإقليمي والدولي.
وفي هذا المجال لا يُعقل أن تقوم الحكومة السوريّة بإلقاء مثـــــل هذه المـادّة، التي لا تدخل أصلاً في ترسانتها العسكريّة، على طفل هنا أو بيت مدني هناك في كفر زيتا أو غيرها، وأن لا تستخدم هذه المادّة، لو كانتْ بيدها، ضد التجمعات الكبيرة للإرهابيين وأماكن تواجدهم والتي تبذل القوّات المسلّحة السوريّة كل الجهد الممكن للقضاء عليها والتخلّص من شرورها. ومن جهة أخرى، فإنَّ غالبيّة الدول الأعضاء في منظمة حظر الأسلحة الكيماويّة عبّرتْ عن أهميّة أنَّ تقدّم اللجنة التي تقوم بتقصّي الحقائق في هذا المجال نتائج علمية مقنعة ومحايدة وموضوعيّة عن عملها بدل الاعتماد على أدوات رخيصة من العملاء وشهود الزور والمأجورين أخذوهم إلى تركيّا لتقديم إفادات كاذبة دفعتْ الأموال والرشاوى من أجل تقديمها، علماً أنَّ الجهات السوريّة ذات الصلة كانتْ قد وضعتْ تحت تصرّف لجنة التحقيق كل الإمكانيات التي تمكّنها من إجراء تحقيق موضوعي من داخل سورية. والأهم من ذلك هو قيام الدول الغربيّة بالعزف على نغمة واحدة تتكرّر في بيانات هذه الدول «هذه الدول فقط» التي استلمتْ التعليمات الأميركيّة – «الإسرائيليّة» لإثارة هذا الموضوع من دون أن تكون قادرة على كسب صوت واحد من الدول التي تُمارس سياستها باستقلاليّة وعقلانيّة وموضوعيّة ومن دون مجاملة بعيداً عن الضغوط وسياسات الابتزاز الغربيّة وقد ردّتْ عدة وفود صديقة على الادعاءات الغربية ونفتْ أن يكون هنالك أيّة صدقية لها.
أمَّا المكسب الغربي الوحيد الذي لا يشرّفها فهو انضمام نظام آل سعود ونظام أردوغان والأردن والإمارات إلى الجوقة الغربيّة في محاولة لإبعاد التأكيدات التي تُشير إلى أنَّ النظامين السعودي والتركي هما اللذان قاما بتزويد المجموعات الإرهابيّة بالمواد الكيماويّة لقتل السوريين الأبرياء وتدمير ممتلكاتهم لإشباع غرائزهم المتوحشة والمنفلتة من أي عقال أو ضمير أو رادع أخلاقي.
لقد ردّ السيد الرئيس بشار الأسد على هذه الادعاءات حيث قال في مقابلته مع مجلة Paris Match الفرنسية: «لم نستخدم هذا النوع من الأسلحة، ولو استخدمناها في أي مكان لقتل عشرات وربما مئات الآلاف من الناس… هذه الأسلحة لا يمكن أن تقتل، كما قيل في العام الماضي، مئة أو مئتي شخص فقط، وخاصّةً في مناطق فيها على الأقل مئات الآلاف وربما الملايين من الناس». وأضاف الرئيس الأسد قائلاً: «إنَّ هذه الاتهامات لا تفاجئنا… فمنذ متى يقول الأميركيون شيئاً صحيحاً حول الأزمة في سورية»!.
ها هي سورية تمضي قدماً، وتكسب مزيداً من احترام الكثير من دول العالم لصمودها في وجه الإرهاب، وتنفيذ كل التزاماتها المتعلّقة بإنشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط. وإذا كانتْ الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون جادّين في إخلاء الشرق الأوسط والعالم من أسلحة الدمار الشامل فليبدأوا بأنفسهم و«بإسرائيلهم»، خصوصاً بعد أن انضمّتْ جميع الدول العربيّة إلى آليات القضاء على أسلحة الدمار الشامل، ولم تبق أيّة أسلحة دمار شامل في المنطقة إلاَّ في الترسانات «الإسرائيليّة».
وإذا كان الكلام الساقط والمملوء بالحقد يتحوّل في نهاية المطاف إلى ما يشبه النفايات، فإنَّه حري بالدول الغربيّة وعملائها في المنطقة أن يتخلّوا عن الكلام الذي لا يشبه في مضمونه وأثره سوى أسلحة الدمار الشامل. وتعرف جميع شعوب العالم، خصوصاً النامية منها، أن الحروب تبدأ بكلمة وفي عقول البشر.
إنَّ عالم اليوم لم يعد قادراً على تحمّل أكاذيب الغرب وسياساته ذات المعايير المزدوجة والتهديدات التي لا مبرّر لها والضغوط التي تفتقر إلى الحد الأدنى من الصدقيّة والشفافيّة والأخلاق.
أمَّا سورية، التي دفعتْ وما زالتْ تدفع ثمن صمودها وعزّتها وكرامة شعبها وأمّتها، فإنَّها على العهد ماضية كي تؤكّد أنَّ العين يمكن أن تقاوم المخرز، وأنَّ الشعوب هي التي تقرّر مصيرها وحاضرها ومستقبلها.
(البناء)