الكيان والصراع “الديني” د . فايز رشيد
محاولات صهيونية محمومة لتحويل الصراع الفلسطيني العربي الإنساني – الصهيوني من صراع وطني تحرري للضحية المعتدى عليها، ضد المعتدي الجلاد المغتصب، والسارق للأرض الفلسطينية، وللتاريخ والتراث والحضارة الفلسطينية، إلى صراع “إسلامي – يهودي”، وكأن صراع شعبنا مع الديانة اليهودية! هذا تضليل إرهابي وتحوير مقصود للصراع، لأن الكيان هو المستفيد الأول والأخير من هذا التحوير . ولأننا ندرك حقيقة الصهيونية، فإن أسطوانتها القادمة ستكون: الكره الإسلامي – المسيحي – العربي، لليهود كيهود! بمعنى آخر ستلصق بنا تهمة “العداء للسامية”! التهمة الجاهزة “إسرائيلياً” وصهيونياً لإلصاقها، بكل من يتحدث عن حقيقة: عدوانية، وعنصرية، ومذابح “إسرائيل”، واغتصابها للحقوق الوطنية الفلسطينية والأخرى العربية .
وفقاً للكاتب برنارد لازار في كتابه القيّم “اللاسامية، تاريخها وأسبابها”: فإن “اللاسامية” ظهرت أول مرة في كتاب الصحفي ولهلم ماد “انتصار اليهودية على الجرمانية” عام ،1873 وهو يعتبر “أن خاصية المماحكة والانعزال لليهود، واقتصارها على أضيق تفسير للشريعة، أعطيا على مدى العصور، الذريعة للعداء لليهود”، من وجهة نظره: فإن أبرز هذه الأسباب: اليهودية مشرّبة بخاصية “استثنائية معتنقيها”، الاعتقاد بامتياز التوراة عن الكتب السماوية الأخرى، اعتقاد اليهود: أنهم خارج الشعوب وفوق المجتمعات، اعتقاد اليهود “أن كافة الأجناس الأخرى، أقل قدراً عند الله من اليهود” لذلك فهم فوق كل الشعوب . وينهي الكاتب فقرته بالجملة التالية “إن هذه المعتقدات هي خاصية لظهور الشوفينية في الأديان” . نسوق ذلك دون تعليق . وفقاً للعديد من الأبحاث: ظهرت الصهيونية (كمصطلح سياسي وليس كديني) في مقالة كتبها المفكر اليهودي النمساوي “ناثان برنباوم” ونشرها في مجلة “التحرر الذاتي” وفيها عرّف الصهيونية بأنها: “النهضة السياسية لليهود بهدف عودتهم الجماعية إلى فلسطين” .
من قبل، وفي القرن السادس عشر، بدأت إرهاصات تتفاعل في الأوساط اليهودية الأوروبية، وقام أحد اليهود “ديفيد روبيني” بالدعوة إلى “غزو اليهود لفلسطين والاستيلاء عليها” . هذه الإرهاصات كانت الخلفية لدعوة نابليون، إلى إنشاء دولة ذات حكم ذاتي وتابعة لفرنسا، لليهود في فلسطين، تحافظ على المصالح الفرنسية في المنطقة . تبنى هذه الدعوة مؤتمران يهوديان عقدا في عامي 1884- 1887 وتم إنشاء “مركز للاتحاد الصهيوني” بزعامة ليبنسكر، ثم تتالت الأحداث بعد ذلك وصولاً إلى اللحظة الراهنة .
كان المقصود من هذه المقدمة المختصرة، مسألتين، الأولى: إلقاء الضوء على ظهور الصهيونية كحركة سياسية بعيداً عن المفهوم الديني (الصهيونية الدينية) والأخيرة لا تتناقض معها . المسألة الثانية: توضيح حقيقة التحالف والتآمر الصهيوني – الاستعماري من أجل إنشاء دولة الكيان في فلسطين، لتكون دولة صديقة للقوى الاستعمارية ورأس جسر لها، وعدوة لشعوب المنطقة العربية من أجل منع توحيدها مستقبلاً (هذا كان أبرز القرارات التي اتخذها مؤتمر كامبل – بنرمان عام 1907) .
تاريخ العلاقة بين المسلمين واليهود يمتد طويلاً في التاريخ: في الأندلس إبان الحكم العربي الإسلامي لها، احتضن المسلمون، اليهود المهجرّين قسراً من مناطق أوروبية مختلفة آنذاك . شهد اليهود عصرهم الذهبي في الأندلس . عند خروج العرب المسلمين منها، خرج أيضاً اليهود الذين استقروا في معظمهم في شمال إفريقيا، وعاشوا في سلام ووئام فيها مع المسلمين . في عام 1492 عندما أصدر الملك الإسباني فرديناند مرسوماً بطرد اليهود، ما لم يعتنقوا المسيحية! عرض السلطان العثماني بايزيد عليهم الهجرة إلى مناطق الدولة العثمانية، لكن معظمهم استقر في شمال إفريقيا أيضاً فهي الأقرب إلى الأندلس . في الوطن العربي: عاش اليهود مع المسلمين في أقطارهم في سلام ووئام، كذلك في فلسطين . . فأين هو الصراع بين المسلمين واليهود؟
فيما بعد، ومع ظهور الصهيونية السياسية وتحول اليهودية من ديانة إلى عقيدة “قومية”، وفيما بعد كان من الطبيعي أن تتحول وفقاً لروجيه غارودي إلى عقيدة “استعمارية” بعد “القرار الصهيوني بإنشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين”، وذلك في المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897 . بدأت فيما بعد: الهجرة اليهودية الصهيونية بمساندة الدول الاستعمارية (قرار مؤتمر كامبل – بنرمان عام ،1907 ووعد بلفور عام 1917) وبخاصة، بريطانيا ومساندتها الفعلية للحركة الصهيونية، بتهجير اليهود وتوطينهم في فلسطين إبان انتدابها عليها، ومن ثم إنشاء دولة الكيان بعد طرد معظم الفلسطينيين منها . ما تحاوله الصهيونية: تحويل الصراع وإحلاله بديلاً للصراع الوطني التحرري ضدها وكيانها المتمثل في “إسرائيل” .
ما نسأله: بالافتراض جدلاً . . لو أن الصهيونية لم تغتصب أرضنا الفلسطينية العربية وتنشئ كيانها، فهل يكون ثمة تناقض مع اليهود الصهاينة (المقصود: مؤيدي الحركة الصهيونية ممن استمعوا واقتنعوا بخطابها السياسي ودعوتها للهجرة واغتصاب فلسطين)؟ كثيرون من اليهود يعادون الصهيونية وكيانها، ويدعون إلى زواله، وكثيرون منهم وقفوا ضد إنشاء “إسرائيل”، وبعضهم ترك العيش فيها، وآخرون يرفضون الهجرة إليها . . فهل من تناقض فلسطيني عربي – إسلامي – مسيحي مع هؤلاء؟
لأجل أهداف مرسومة بدقة: يحاول الكيان جاهداً تحويل الصراع إلى “ديني”، فهو سيكون المستفيد الأول والأخير من ذلك: يغطي حقيقة وأساس الصراع معه، ويكسب قطاعات أكبر من يهود العالم، سيبدو كأقلية أمام مئات ملايين المسلمين، سيزيد من مؤيديه على الساحة العالمية، سيحقق مزيداً من التعاطف مع وجوده ويثّبت من هذا الوجود في المنطقة . فليقطع شعبنا وأمتنا ودولنا العربية والإسلامية ومسيحيونا مخططاته القذرة على هذا الصعيد .
(الخليج)