من موسكو… مع المحبّة د. فيصل المقداد
نائب وزير الخارجيّة السوريّة
لا تفاجئنا موسكو بدفئها على رغم أن درجة الحرارة فيها تصل في الليل إلى ما دون العشر درجات تحت الصفر، أمَّا في النهار فهي تصل إلى حدود السبع درجات تحت الصفر. إلّا أنَّ موسكو تلف ضيوفها السوريين بكل الحرارة والمحبَّة والدفء إلى درجة لا تشعرك ببرودة الجو.
ها هي موسكو التي عرفها السوريون عبر التاريخ بقلبها الدافئ وبياض ثلجها النقي. ولا تشعرك موسكو بأنَّك غريب عنها وبخاصّة عندما تعانقك كصديق وتودّعك على أمل اللقاء بك، إمَّا في دمشق أو في أي مكان من روسيا الاتحادية الشاسعة بمساحتها، والغنيّة بثرواتها والرائعة بشعبها. سواءً كان زائر روسيا الاتحادية في موسكو أو في سوتشي أو بطرسبورغ، فإنَّه لا يلقى إلّا الابتسامة على وجه الشعب الروسي الجميل. وإذا كانت أكوام الثلج ترحّب بك كرمز لموسم الخير، وكموعد لتفتح الزهور، أو كتعبير عن قدرة الشعب الروسي على تحمّل أقسى درجات البرودة، فإنَّ أجمل ما في روسيا عموماً هو ذلك الاعتزاز بالوطن من قِبَل مواطنيه وقدرة هذا الشعب على التحدّي والصمود.
روسيا التي يزين علمها الأبيض والأزرق والأحمر شوارع مدنها وقراها، ويرتفع عالياً على أبنيتها، يحمل في رفيفه آمال وتطلعات شعوب الاتحاد الروسي، لكنّه لا يتأثّر بدرجات الحرارة القارسة شتاءً، ولا بدفء الطبيعة صيفاً. هو هكذا دائماً شامخ يطل على الشعب الروسي من عل ليذكّر بالتاريخ المجيد وليزرع الأمل في قلوب أطفال روسيا الاتحادية ورجالها ونسائها.
اعتَقَدَ البعض قبل سنوات عدة تلت انتهاء الحرب الباردة أنَّ موسكو لم تعد موسكو، وأنَّ نابليون وهتلر وغزاة آخرين قادرون الآن على أخذها إلى طي النسيان، وأنَّ روسيا، بعد أن دب الإرهاق في شوارعها، قد تذهب إلى غير رجعة. هكذا اعتقدوا وهكذا أرادوا عالماً من دون دور روسي. أرادوا روسيا تابعة لهم! ألم يقولوا أنّ انهيار المعسكر الاشتراكي قد تركهم قوّةً أو قطباً واحداً سيهيمن على البشريّة لمئات السنين؟ هكذا قالوا، وهكذا اعتقدوا!
ربما يقول قائل إنَّ الوهن قد أصاب روسيا في التسعينات من القرن الماضي، وقد يكون ذلك صحيحاً. ففي مراحل التحوّل الاقتصادي الاجتماعي والسياسي الأساسيّة من الطبيعي أن تمر الدول بما مرّت به روسيا. ألم تشهد الولايات المتحدة الأميركية مثل ذلك بعد انتهاء حربها الأهليّة؟ ألم تمر فرنسا بذلك بعد أعوام 1789 وكذلك بريطانيا بعد انهيار إمبراطورتيها الاستعمارية؟ إلّا أنَّ الكل يعرف أنَّ عودة روسيا إلى قوتها وإلى دورها الدولي لم تأخذ سوى بعض سنوات قليلة، فكانت كطائر الفينيق الذي يحترق وبعد ذلك تتجمّع ذرات رماده مرّةً أخرى ويخرج منها أكثر قوّةً وعافيةً وعظمةً. هذه هي روسيا التي عادت قوّةً عظمى، بلد يحسب الكل حسابه، فمنهم من فهم الدرس، ومنهم من ينتظر. أمَّا الذين بدّلوا تبديلاً فهم يذوقون اليوم اللقمة المرّة، وخسروا نتيجة سوء تقديرهم والأوهام التي بنوها، القدرة على الفهم الصحيح فخدعوا أنفسهم وخدعوا شعوبهم. وها هم يعودون مرّةً أخرى إلى لعبتهم القديمة وأساليبهم التي عفى عليها الزمن. فها هي حملات إعلامهم تتلاشى، وتناقضاتهم تتزايد، وأحلافهم العسكرية والسياسيّة تقف عاجزة عن فعل أي شيء، وها هم الأميركيون يتلاعبون بالأوروبيين ويكسبون على حساب بلاهة البعض في أوروبا، حيث ارتفعت معدلات التجارة بين روسيا والولايات المتحدة بشكل ملحوظ خلال الأشهر الأخيرة في وقت تراجعت الصادرات والتعاملات الأوروبية مع روسيا إلى أكثر من النصف خلال الفترة نفسها التي تلت أحداث أوكرانيا. سيكتب التاريخ أنَّ الرئيس فلاديمير بوتين هو الذي أعاد إلى روسيا ألقها ودورها الاستراتيجي. وعندما يلتقي الرئيس بوتين ضيوفه فإنّه يزرع في نفوسهم الكثير من المعاني النبيلة والثقة بأنَّ عالم اليوم سيكون أفضل، وأنَّه على رغم كل الضغوط التي تتعرّض لها روسيا من قِبَل من استباحوا العالم بشعوبه وخيراته، فإنَّ روسيا لن تتخلّى عن الدور التاريخي التي وجدت من أجله. بعض الدول تُخلق عظيمة هكذا، وعلى قيادتها أن تحافظ على عظمتها. وروسيا ولدت للقيام بدور كبير، وهي تقوم بتحمّل أعباء هذا الدور الكبير.
وإذا كان الاتحاد الروسي يقوم بدوره في عالم اليوم بطريقة حازت احترام شعوب العالم، فلأنَّ روسيا آلتْ على نفسها ألا تكون كبيرة إلّا من خلال تبنيها للقيم الكونيّة لعالم اليوم وهي احترام القانون الدولي، واحترام ميثاق الأمم المتحدة والالتزام المطلق استقلال وسيادة الدول والشعوب وعدم التدخّل في شؤونها الداخليّة، إضافةً إلى إيمانها الذي لا يتزعزع بأهميّة إيجاد علاقات ديمقراطيّة في العلاقات الدوليّة.
حوالى منتصف الثمانينات من القرن الماضي، وخلال اجتماع الرئيس السوفياتي آندروبوف آنذاك مع وفد سوري، وكانت سورية ما زالت تواجه حينها عدواناً عليها وتدخّلاً في شؤونها كما هو حالها اليوم، قال آندروبوف لضيوفه السوريين: «أبلغوا الرئيس حافظ الأسد أنني لن أسمح لأيّة قوّة بالنيل من قوّة الرئيس الأسد وصموده». وها هي سورية تواجه الآن عدواناً إرهابيّاً عليها، ويعيد التاريخ كتابة نفسه مجدّداً وتقف الآن روسيا وعلى رأسها الرئيس بوتين إلى جانب سورية في حربها على الإرهاب، وتقدّم الدعم نفسه لسورية نيابةً عن كل المحاربين ضد الإرهاب.
روسيا الاتحادية تقف إلى جانب سورية شعباً وقيادةً، وهذا ليس سرّاً، فهكذا هي روسيا تقف انطلاقاً من صدقية مبادئها إلى جانب الحق ضد الباطل، إلى جانب من يُحارب الإرهاب ويمنع انتشاره إلى خارج الشرق الأوسط. فلا مواقف وسطية في محاربة الإرهاب والتشدّد والتكفير واستخدام الدين للانقضاض على مقدرات الشعوب وقتل الأبرياء وتكفير المؤمنين وقطع رؤوس البشر وحرمان المرأة من حقوقها وتشويه طفولة الأجيال البريئة وحريّة التعبير وتدمير الحضارة…
إنَّ العلاقات السوريّة الروسيّة التي تعود بداياتها إلى عصور مغرقة في القِدَم، شهدتْ خلال الأشهر والأيام الماضية بقيادة الرئيسين بشار الأسد وفلاديمير بوتين تقدّماً غير مسبوق في المجالات كافّة. ولا نتردّد في القول بأنَّ هذا التحسّن لن ينعكس على سورية وحدها بل على المنطقة والعالم كله. فسورية والاتحاد الروسي يتشاركان القناعة في أنَّ أي حل الآن للوضع في سورية لا بد أن يستند إلى أولوية مكافحة الإرهاب وتحقيق انفراج في الوضع الداخلي من خلال المصالحات الوطنيّة ودعم خطّة المبعوث الدولي ستيفان ديميستورا إلى سورية التي تستند إلى تجميد الوضع في حلب أوّلاً والانطلاق بعد ذلك إلى مناطق أخرى فور التزام الأطراف الأخرى وقف تمويل وتسليح وإيواء الإرهابيين، إضافةً إلى وضع إطار لحوار سوري سوري بين السوريين ومن دون أي تدخّل خارجي في الشؤون الداخليّة لسورية. وقد تمَّ الاتفاق بين الجانبين السوري والروسي على بدء عمليّة مشاورات بين الجانبين للتوصّل إلى خطوات صحيحة تضع حدّاً للتدمير المنهجي الذي تقوم به المجموعات الإرهابيّة لسورية وإبعاد خطر الإرهاب عن سورية والمنطقة والعالم.
إنَّ مشاعر الدفء التي أحاط بها الأصدقاء الروس الزيارة المهمّة التي قام بها الوفد السوري إلى موسكو قبل يومين، لا تبدّد أوهام وأحلام المتربصين بسورية فحسب، بل تعزز قناعة السوريين باستمرار وقوف أصدقائهم الروس إلى جانبهم في معركتهم ضد الإرهاب، ومن أجل السلام والأمن والاستقرار في سورية والمنطقة والعالم.
(البناء)