سجن كبير مستقل؟!…
كان يا ما كان وفي بقعة من الأرض اجتمعت فئة من الناس، كافحت وناضلت من أجل أن يكون لها كيان ووطن اصطلحت على تسميته لبنان، قيل إنه وطن التعدد وملتقى الحضارات، ابتكر الأبجدية وأهدى للعالم حروفها رسالة علم ومعرفة، يتواصل من خلالها ويرتقي، وكان بين أبنائه، وما يزال أدباء وعلماء ومخترعون ومقاومون، وأسماء كبار لمعوا في كل المجالات وحفروا اسمه مشرقا في بقاع الارض وحيث وُجدوا، ليصبح هذا البلد الصغير نافذة الشرق على العالم ونافذة العالم على الشرق..
توالت على هذا اللبنان المشاكل والحروب، وعرف غزوات واستعمارا من كل حدب وصوب ومازال، لكن أهله أبوا إلا أن يكون وطنا حرا مستقلا، فما خضعوا أو استكانوا، بل انبروا يبذلون في سبيله كل غالٍ ونفيس، واجهوا الاضطهاد والتنكيل والاعتقال، رووا ترابه بدماء أزهرت حرية وفرحا ببزوغ فجر الاستقلال، معمدا بأرواح شهداء مخلّدين…
عرف لبنان فترات من الاستقرار والهدوء بلغت حدّ تسميته بسويسرا الشرق، وأثبت أهله جدارة وقدرات عالية في رسم صورة مضيئة، وضعته في الصدارة على طريق الريادة، صورة ربما لم يبق منها إلا الذكرى، في ظل ما نعيشه اليوم، وما نشهده من صراعات وتناحر، ومن ضروب الاستغلال المفضوح لطاقاته ومقدراته، ومن السياسات المغلوطة، وهذا الكم الهائل من الفسادّ وتقاذف المسؤوليات، وغياب المؤسسات الى درجة بات معها من يقوم بواجبه بطلا خارقا يتحدى المستحيل، ويسبح عكس التيارات الجارفة، التي لا تستوعب إلا مشاريع المصالح الصغيرة والاستثمار الضيق فرديا كان أم لفئة محددة، مشاريع أساسها التجييش الطائفي والتضليل الفئوي والتجهيل بعناوين تتسع لكل الأهواء والمصالح إلا مصلحة الوطن وخير بنيه.
ونحن نحيي الذكرى الواحدة والسبعين على الاستقلال نسأل، ماذا بقي في لبنان من مقومات الوطن، وماذا فعلنا لصون وصية الأجداد ببنائه والحفاظ عليه، والوفاء لتضحياتهم في سبيله، أين مؤسسات الدولة ورجالاتها من معاناة المواطن اليومية وقلقه وخوفه على مصير، يراه اسود قاتما إذا ما استمر الحال على ما هو عليه؟!.
ماذا بقي من وطن جبران ومي زيادة وميخائيل نعيمة ومارون عبود وسعيد عقل… ماذا بقي من وطن الرحابنة، وطن فيروز وصباح، وطن وديع الصافي ونصري شمس الدين… وطن شوشو وشامل… ماذا بقي من وطن حسن كامل الصباح ورمال رمال… ونتوقف عند هذا الحد إنصافا لمن يمكن أن يفوتنا ذكره، فاللائحة تطول، والكبار كتبوا اسماءهم بأحرف من نور لن يقوى عليه الجهل الزاحف بلبوس الدين وغيره من الادعاءات الزائفة.
الوطن يُجلد كل يوم، ونحن قاعدون لا حول لنا ولا قوة، حتى المقاومة القوة التي كانت ومازالت الحصن الأمين والدرع الواقية، لا نزال نسعى ونبتكر الوسائل لحشرها في خانة الاتهام والمحاسبة والاقتصاص منها على ما اقترفته من ذنوب مواجهة العدو وإفشال قرصنته وأطماعه اللامحدودة.
أما جيشنا الوطني فحدّث ولا حرج عن أحواله وما يتعرض له من استهداف ومهانة، أقله على مستوى القرار السياسي الخجول والمتأخر في دعمه ومؤازرته، ناهيك عن الدعم المادي والتجهيزات القاصرة عن مجاراة مؤهلاته وقدراته وتضحيات أبطاله الأحياء والشهداء وهي لا تبارح خانة السمسرات والمتاجرة.
ونحن نحيي الاستقلال ونستذكر مآثر رجالاته لا نملك إلا الأمل باستكمال الحكاية وفق ما نريد ونطمح، وبما يتناسب مع أحلام شعب أثخنته الجراح، وفتك به الاستهتار، وأثقلت كواهله الأعباء وشظف العيش، فبات مسلوب الإرادة، غارقا في تدوير الزوايا وابتكار الوسائل لتأمين أبسط مستلزمات الحياة، وفي مقدمتها غذاء أكرهوه على إعادة تدويره ذاتيا، ليأكل ما يُنتج من نفايات وأوساخ، تخلفوا عن تدويرها بوسائل العصر المعروفة والآمنة.
ما نعيشه اليوم لا يتعدى صورا مشوهة لوطن جعلوه أشبه بسجن كبير، وأوهموا شعبه بأنهم أحرار لا حدّ لطموحاتهم، ولا عقبات تواجه أحلامهم الكبيرة، فيما تركهم الواقع على قارعة اليأس يتخبطون في المشاكل، بقي منهم من بقي، وغادره القادرون بحثا عن فرص موعودة بحياة لائقة.
كل عام وأنتم بخير .