الفلسطينيون يجترحون مقاومتهم… شهداؤهم… على قيد الحياة د. فايز رشيد
الشهيدان البطلان غسان وعدي أبو جمل اجترحا معجزة الدخول إلى معهد «هارنوف»، المحصّن أمنيا، وقاما بعمليتهما البطولية الرائعة، التي بنوعيتها هزّت كل الكيان: حكومة ومستوطنين غرباء عن أرضنا وتاريخنا وحضارتنا . الجميلان لم يكونا الأولّين ولن يكونا الأخيرين.. سبقهما شهداء كثيرون، منهم عبدالرحمن الشلودي، معتز حجازي، يوسف رموني الذي اعدمه المستوطنون في الحافلة التي يقودها، خير الدين حمدان من قرية كفركنا في منطقة 48، الذي قتله الجيش (الذي يتحدث الغرب عن طهارة سلاحه)، وابراهيم العكاري وغيرهم وغيرهم.
عملية البطلين أبو جمل تذكّر بعملية اغتيال العنصري الفاشي رحبعام زئيفي، التي أتت ردّا على اغتيال الشهيد أبو علي مصطفى.
البطلان تسلّحا بالإرادة والإيمان الوطني بحقوق شعبهما وعدالة قضيته، وتجاوزا كل المعيقات، لم يكن بحوزتهما سوى سكاكين بسيطة، ومعاول ومسدسين بسيطين. هؤلاء الشهداء أحياء بيننا، يتجسدون في أرضنا سنديانة عتيقة.. زيتونة خالدة… فلسطينية اللون والدم والطعم والرائحة. هؤلاء الشهداء جعلوا من دمائهم، لغة للتخاطب بين أسوار المدينة والغزاة.. مع أن دمهم الفلسطيني هو أيضا حبر للتفاهم بين أشياء الطبيعة والإله. نعم الفلسطينيون (وليس الفيتناميين وحدهم) قادرون على اجتراح المقاومة بأساليب ووسائل بسيطة، رغم كافة المعيقات والصعاب.
عمليات القدس تحولت إلى ظاهرة مقاومة جديدة، وشكلا مبتكرا من أساليبها: عجلة سيارة، حجر، سكين، معول. إنها أيضا دليل قناعة تشكلت ولا تزال لدى معظم الفلسطينيين بأن المقاومة هي الأسلوب الوحيد لردع العدو واقتحامات قطعانه من المستوطنين للقدس وللاقصى، ومحاولة هدمه وإقامة الهيكل المزعوم محله، وأن ردع خطواته لا يتم من خلال المفاوضات والتوسل وبيانات الاستنكار والشجب، وإنما من خلال القوة. العمليات ليست دليل «يأس» مثلما يحاول البعض تفسيره. العمليات أصبحت نموذجا للتطبيق: طعن مستوطنين في كفار سابا بالقرب من قلقيلية، كان ملاحظا أن غالبية من يقوم بالعمليات هم من الأسرى السابقين في سجون العدو، ممن يدركون حقيقته وكيفية الرد عليه.
من بين القتلى، الحاخام العنصري موشيه تبراسكي رئيس مدرسة «توراه موشيه»،وهو أحد قيادات حركة «شاس» المتطرفة، أما عن مواقف هذه الحركة من الفلسطينيين، فحدّث ولا حرج. من بين القتلى، ضابط أمن صهيوني. عملية الشهيدين أبو جمل أثارت جنون الكيان، رئيس وزرائه يتهدد «سنرد بيد من حديد على عملية القدس».. وكأنه لا يستعملها وكيانه وعصاباته ضد شعبنا وأمتنا (في بحر البقر ودفن الجنود المصريين الأسرى، أحياء في صحراء سيناء عام 1967)، وكأنه يتعامل مع شعبنا طيلة الوقت بقفازات حريرية! ليبرمان يحمّل المسؤولية لعباس ويتهمه «بأنه سبب تحويل الصراع إلى ديني».. وكأنه لا حقوق لشعبنا!
العمليات هي رد الفعل الطبيعي على التنكيل الوحشي بشعبنا، أهلنا يواجهون اعتداءات متواصلة إجرامية من قوات الاحتلال وجموع المستوطنين عليهم، كما يجري تهويد للقدس ولأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، يتم قتل العديدين منهم وبدم بارد، مذابح دائمة ترتكب بحقهم، إجرام متواصل وسن المزيد من القوانين العنصرية ضدهم، دعوات لرحيل أهالي منطقة 48 إلى الضفة والقطاع، عنصرية كريهة ضدهم، اغتيالات، اعتقالات متواصلة حتى للشيوخ والنساء والأطفال منهم، سرقة أراضيهم ومصادرتها في عمليات الاستيطان التي لم ولن تتوقف، تكسيرعظامهم، تهجيرهم من وطنهم فرادى وجماعات بشكل مستمر منذ عقود طويلة من دون توقف.
مجازر كثيرة ارتكبت بحقهم، منها دير ياسين، كفرقاسم، الطنطورة، مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل وغيرها الكثير. وراء كل مجزرة، تحاكم إسرائيل (إعلاميا) مرتكبيها بغرامات مالية (قدرها قرش واحد، مثل الحكم على الضابط شيدمي) أو تتهمه بالجنون! مؤخرا، صادق الكنيست على قرار يمنع العفو عن الأسرى الفلسطينيين أو تخفيف الأحكام عنهم. كما يجري اعتقال الكثيرين من ابناء شعبنا وتوقيفهم، مددا طويلة بموجب قانون وحشي من مخلفات الاحتلال البريطاني وهو «القانون الإداري».
كل هذا غيض من فيض جرائم وموبقات ووحشية الاحتلال والمستوطنين ضد أبناء شعبنا الفلسطيني في كل المناطق الفلسطينية المحتلة عام 48، عام 67.. وحتى اللحظة. أبعد كل ذلك، يستغربون قيام البعض من الفلسطينيين بدهس جنود من قوات احتلالهم، أو طعنهم بالسكاكين؟ ماذا ينتظرون من شعبنا، أينتظرون لافتات مرفوعة ترحب باحتلالهم وقمعهم؟ أيريدون رمي قوات احتلالهم ومستوطنيهم بالورود؟ غريب والله أمر هؤلاء الصهاينة؟
ما يتسببوه لنا من معاناة وعذابات لا يحتملها بشر؟ معاناة وعذابات مستمرة على مدى قرن زمني، وليس في الأفق ما يوحي بتخفيفها ولا نقول انتهاؤها… عذابات ومعاناة.. لو وقعت على جبل لناء بحملها! ولكن رغم كل ذلك، ترعبهم مقاومتنا. لن يهنأ العدو بالا بأرضنا، سنحولها جحيما دائما تحت أقدامه وله، طالما بقي احتلالهم، فأرضنا عصيّة على استقرار المستوطنين الغرباء عليها ومشيهم على أديمها، والفلسطينيون عصيّون على الكسر. ما يؤلم القلب والضمير إدانة السلطة للعملية الاخيرة مثلما هي إدانتها لهجمات المستوطنين، لكن المستوطنين وجيش الاحتلال والشارع الإسرائيلي عموما، هم المعتدون والمحتلون لأرضنا، والذين يرتكبون المذابح والمجازر بحق شعبنا والمغتصبون لكل حقوقنا والناكرون لها، نحن المعتدى عليهم دوما.. فكيف تتم المساواة بين الضحية والجلاد؟!
شهيدنا الفلسطيني يمضي.. يزرع ضوءه في عتمة الليل مضيئا لآخرين يستكملون طريق الحرية. شهداء خرجوا ويخرجون من دمائهم… يحاولون الوفاء لعهد الأرض، يمتشقون أجسادهم.. يخترقون الأسوار يجتازونها رغم الصعاب.. يزرعون التضحية وردا لاجيال فلسطينية أخرى ستأتي. هكذا الفلسطيني ينزرع في قضيته تاريخا.. حاضرا ومستقبلا.
ما أصعب الكتابة عمّن مضوا شهداء وما زلت تعتبرهم أحياء! لعله العقل يرفض التصديق، فأنت تحس أنهم موجودون، ولعلّهم بألقهم يفرضون حضورهم عليك وعلى الآخرين، ولعلها النهايات التي ترفض تصديقها، ولعله الاختلاط بين ما هو واقـــع، وما تود أن تراه باعتباره متخّيلاً.. كل ذلك يحتل ركناً كبيراً في الوعي. المجد والخلود لشهدائنا الأبرار.. النصر لشعبنا وأمتنا.. الخزي والهزيمة للعدو.
(القدس العربي)