فنّ الذبح للكاميرا د. إبراهيم علوش
باتت أفلام قطع الرؤوس، على قبحها، فرعاً من فروع «الفن السابع»، فما يصلنا من عمليات الذبح التي يمارسها التكفيريون شريط فيديو قصير يتضمن استعراضاً وحشياً هو في الأساس منتوجٌ سينمائي/ إعلامي يقوم على مزج التوثيق والدراما لإحداث صدمة في ذهن المشاهد.
يوثّق هذا المنتوج الإعلامي لدراما قطع رأس، أي رأس. فما يفترض أنه فيلم وثائقي قصير يختلف عن الفيلم الوثائقي التقليدي بأنه يستند إلى نص درامي معد مسبقاً يقوم على أشخاص حقيقيين وحبكة حقيقية ففكرته السينمائية إذن هي تحويل التمثيلية إلى واقع دموي ملموس، وتحويل الممثل إلى شخص حقيقي، بدلاً من تمثيل الواقع في فيلم أو مسرحية وبدلاً من تحويل الشخص إلى ممثل أقصى طموحه أن يكون أداؤه مقنعاً للمشاهد «كأنه حقيقي»، سوى أنك تستطيع أن تذكر نفسك في أصعب لحظات حبكة فيلم يشد الأوتار أنه «مجرد فيلم»، إن شئت، لكن ليس في حالة فيلم قطع الرأس التكفيري الذي يتحول، بسبب هذه الصفة تحديداً، إلى أقوى مرشح فعلياً لجوائز الفيلم الوثائقي العالمية في أول عقدين من القرن الحادي والعشرين!
لا يمكن فهم فيلم الذبح أو قطع الرأس إذن من دون البدء بـ»تأثير الاستعراض» الذي أعد ذلك الفيلم لأجله، فهو فيلمٌ أُعدّ ليُشاهد عبر وسائل الاتصال الجماهيري، أي أنه استند منذ البداية إلى فكرة وجود مُشاهدين، ومع أن قطع الرؤوس يحدث أحياناً بعيداً عن الكاميرات، فإن صور الرؤوس المقطوعة بعد الحادثة تتحول بدورها إلى منتوج إعلامي ثانوي أشبه بإطلاق فيلم على القرص المدمج DVD بعد استنفاد فوائده التجارية في صالات العرض السينمائي. أما قطع الرأس أو الرؤوس الذي يحدث أمام الكاميرا فقد تبلورت فكرته منذ البداية ليكون سلعة إعلامية. إنّه ذبحٌ لأجل الكاميرا، لا مجرد ذبحٍ صدف أنه يحدث أمامها… لكن الفيلم الجيد هو الذي يبدو أنه غير مفتعل، والتمثيل الأفضل هو الذي لا يشعرك بأنه تمثيلٌ، وأفلام قطع الرؤوس حقيقة، مهما كانت بشعة، صممت لكي تكون فيلماً.
تستند ثقافة الذبح والنحر إلى اقتصاد البادية والصحراء، قبل النفط والغاز، الذي يقوم على رعي الإبل والماشية عامةً، مقارنة باقتصاد القرى الذي يقوم على الزراعة أو اقتصاد المدن الذي قام تاريخياً على التجارة والحرف. ولا تخلو دولة عربية من بادية أو صحراء، ففينا جميعاً شيءٌ من ثقافتها، إنما علينا أن نتذكر أن الذبح في أسوأ مراحل تاريخنا لم يصل يوماً إلى مثل هذه الدرجة من استهداف الأبرياء الذين «لا ناقةَ لهم ولا جمل» في الصراعات الدائرة أو الغزوات، ولا مثل هذه الاستباحة للأسرى والرهائن، فهو تقليد تتري-مغولي أكثر ممّا هو تقليد عربيّ. كما أن الذبح يختلف عن قطع الرأس الذي يختلف بدوره عن استعراض قطع الرؤوس منهجياً، المختلف بدوره عن تحويل مثل ذلك الاستعراض إلى منتوج إعلامي/ ترفيهي، تماماً مثل هوليوود الباحثة دوماً عن رؤوس/ ممثلين جدد.
لإتقان التكفيريين فنّ إنتاج الرعب والإرهاب سينمائياً دورٌ سياسيٌ مباشر بالطبع في استباحة الروح المعنوية لأعدائهم وإحباط أي مقاومة في المناطق التي يسيطرون عليها، أو في إرسال رسائل سياسية محددة في لحظات محددة، إنما العبرة في تسابق محطات التلفزة لتسويق المنتج التكفيري مع تعطيش المشاهد للبحث عن الصورة الكاملة لأفلام قطع الرؤوس التي لا تبثها القنوات التلفزيونية .
لأفلام الرعب في هوليوود، مثل غيرها من الأفلام، جمهورها وسوقها، كتجارة رابحة تستثمر في سوق الإثارة وتلعب على أوتار الخوف وغريزة البقاء وكره البشاعة التي تجتذب جمهوراً أكبر كلما علا سقفها بمقدار ما تنفر. وتجارة الرعب هي مادة الفيلم التكفيري. فإذا كان الفيلم الهوليوودي يتضمن بعداً تجارياً بالإضافة إلى أبعاده السياسية والثقافية، بمقدار ما يحول الفنّ إلى سلعة، ويحول السلعة إلى فن، فقد كان ذلك الفيلم الهوليوودي تحديداً رائد رفع سقف العنف الدموي الأعمى إلى مستوى السلعة التجارية من خلال تحويل الصدمة النفسية عند جمهور المشاهدين إلى مال، وبالمعية إلى إدمان ثقافي. أما الفيلم التكفيري فقد وظف الصدمة النفسية سياسياً، أي أنه حولها إلى رأس مال سياسي، وبالمعية إلى إدمان ثقافي لا يمكن إشباعه إلا بالمزيد من الدم. لكنه يبقى سليل المدرسة نفسها.
فن الذبح للكاميرا نمطٌ جديدٌ من الاستشراق، بما يزيفه في صورة الشرق، فهو يبرئ بالصورة تاريخ الغرب برمته من جرائمه كافة في الحروب الصليبية وإبادة السكان الأصليين للقارة الأميركية وجرائم الاستعمار الأوروبي الحديث في حق شعوب وأوطان بأكملها.
الفيلم التكفيري إذن هو الابن الشرعي لعصر العولمة أكثر مما يستند إلى ثقافة الصحراء القديمة. فهو مصنّع بمقاييس ثقافة الصورة، للنشر في وسائل الاتصال الجماهيري، لتعميم ثقافة استهلاك غير قابل للوصول إلى نقطة إشباع، ومادته الملموسة هي تسليع الدم واهتلاك الإنسان، لإنتاج قيمة إعلامية وسياسية كتتمة للقيمة التجارية من عمليات المضاربة بالدم والتلاعب بالانطباعات. فهو أكثر تعبيراً عن الكنه الحقيقي لثقافة العولمة منه عن تراثنا العربي-الإسلامي، بل هوالانعكاس الرث لثقافة العولمة في المستعمرات وأشباه المستعمرات في ظروف الوطن العربي والعالم الإسلامي تحديداً، وبصفته تلك، فهو غريب ومستورد وملوث لا أصيل، وأقرب إلى ما بعد الحداثة منه إلى الأصالة، وأكثر تعبيراً عن الرأسمالية في مرحلة التحلل، لأن المتمم الطبيعي لقطع الرؤوس واستباحة الدماء وزرع المتفجرات في الأسواق وبين المدنيين العرب هو استعادة العبودية رسمياً على شكل سوق نخاسة للنساء لا يمكن أن تقتصر عليهن فحيث توجد الجواري يوجد العبيد وحيث تفرض الجزية على مجموعات كاملة من البشر بجريرة هويتها الدينية أو العرقية يصبح العاجز عن الدفع عرضة للبيع في السوق، أسوة بالنفط والغاز والأوطان.
(البناء)