الغطرسة ولغة الواقع
تظهر الإدارة الأميركية تصميماً على مواصلة المفاوضات الصعبة حول الملف النووي الإيراني وتشير التكهّنات إلى ترجيح التوصل لتفاهم ما، سواء بتمديد جديد للتفاوض أم بالإعلان عن اتفاق تمهيدي يسبق الاتفاق النهائي كحدّ أدنى.
يجزم بعض الخبراء بأنّ قرار التكيّف مع صعود القوة الإيرانية اتخذ على مستوى المؤسسة الأميركية الحاكمة وليس شأناً مختلفاً عليه من حيث المبدأ بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري وهو حصيلة حسابات استراتيجية في نتائج وأكلاف السير في مواجهة قد تقود عند أيّ احتكاك إلى حرب كبرى لا طاقة للولايات المتحدة ولـ”إسرائيل” بالذات على تحمّل نتائجها وتداعياتها الإقليمية والدولية.
أجريت تلك الحسابات في البنتاغون خلال السنوات الماضية ومنذ حرب تموز 2006 بالذات ومرة جديدة واجهت القيادات العسكرية الأميركية تحدّي تخمين كلفة حرب كبرى في المنطقة بعد تهديد الرئيس باراك أوباما بضرب سورية وبعد أن اضطر للانكفاء أعطى الإشارة بتدشين مرحلة جديدة من التفاوض مع إيران انطلقت باتفاق جنيف العام الماضي.
يعلم المخططون الأميركيون استحالة مواصلة فرض العقوبات ضد خصومهم عبر مجلس الأمن منذ الفيتو المزدوج حول سورية، ويعرفون أن إيران كسرت الحصار الاستعماري بشراكات دولية عملاقة ومتشعّبة وبتنمية قدرات ذاتية مستقلة وضخمة في جميع المجالات.
كذلك يخشى المخططون من الانقلاب الاستراتيجي الذي ستشهده المنطقة حال اعتراف الولايات المتحدة بإيران قوة نووية ورفع العقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة عليها وإزالة الحظر عن التعاون التجاري معها بينما تتلمظ الشركات الأميركية الكبرى لنيل حصص من كعكة استثمارات دسمة في أسواق واعدة ومهمة.
التفاهم مع إيران سيدشن مرحلة جديدة من العلاقات الإيرانية الأميركية التي يمكن وصفها بالمساكنة على تخوم حرب باردة مستمرة، وهي أقرب إلى نموذج العلاقات الصينية الأميركية التي مضى على تطبيعها أكثر من أربعة عقود ولا تزال ميداناً للتجاذب والتنافس إلى درجة اعتبار الولايات المتحدة في عقائدها الاستراتيجية أن الصين هي الخصم المستقبلي الأخطر، وحيث ترتبط برامج استحداث القواعد العسكرية الأميركية بالتحسّب لخرائط صراع النفوذ والحرب التجارية مع الصين، خصوصاً في أفريقيا وأعالي المحيط الهادي، ومن غير شك فإنّ النزاع على النفوذ مع إيران بعد الاتفاق النووي سوف يشمل مناطق عدة في آسيا الوسطى والبلاد العربية والعالم الإسلامي، خصوصاً أن التفاهمات المتوقعة بين الجانبين لن تشمل قضايا محورية كفلسطين حيث تتمسك كلّ من طهران وواشنطن بمواقفها وخياراتها وتحالفاتها لاعتبارات استراتيجية.
تلك التفاهمات المتوقعة ستفرض مسارات سياسية جديدة في شؤون إقليمية أخرى انطلاقاً من التوازنات المتغيّرة، خصوصاً في سورية، فبقدر ما سيكون الإنجاز الإيراني كبيراً سيكون حصاد الشريك السوري مهماً وبذات القدر سينعكس الاتفاق المرتقب على معادلات النزاع العالمي الأوسع بين محور مناهضي الهيمنة الأحادية بقيادة روسيا والصين ومجموعة البريكس والمعسكر الغربي حول مستقبل العلاقات الدولية والأمم المتحدة.
لعرقلة هذه التحولات النوعية المتوقعة وللحدّ من نتائجها تظهر الولايات المتحدة تطرفاً أشدّ وغطرسة أعلى في التعامل مع القوى العالمية التي تتوقع أن تسهم في قطف ثمار اعترافها بالقوة الإيرانية الصاعدة، وهذا ما يفسّر العنجهية والصلافة النافرتين في التعامل مع روسيا الاتحادية خلال قمة العشرين الأخيرة ومواصلة العمل على خطوط المجابهة مع الصين وهو يتبدّى بدرجة أعلى في الحرص على مسايرة الحكومات الإقليمية المرتبطة بالنفوذ الأميركي وبمنظومة الهيمنة الغربية في شأن الموقف من الدولة الوطنية السورية ورئيسها حيث يتلعثم الرئيس الأميركي أمام وخزة الاعتراف بالهزيمة أمام الأسد وبجبرية التعاون معه، ماضياً في مسايرة أحقاد أردوغان القاتلة على حدّ تعبير النائب السابق لرئيس المجلس الوطني للاستخبارات الأميركية غراهام فولر خلال ندوة لمؤسسة راند أوصت بتغيير السياسة الأميركية تجاه دمشق.
يخشى المخططون الأميركيون تعرّض الحكومات التابعة في المنطقة لهزات كبرى بعدما أقامت حساباتها وأدوارها على حدية العداء للجمهورية الإسلامية منذ قيامها عام 1979 وقد أناط بها السيد الأميركي أدواراً عدائية في مرحلة المجابهة ضد إيران ومنظومة المقاومة إلى جانب «إسرائيل».
زمن الهيمنة الأحادية ينحسر والعالم يدخل مخاض التوازنات الجديدة التي ستغيّر في قواعد العلاقات بين القوى الكبرى والإمبراطورية التي تخسر مغامراتها الاستعمارية تحاول التكيف بصعوبة شديدة وتتبدى عليها ملامح الحيرة والارتباك والغطرسة في لغة أوباما حول الصين وروسيا وسورية، ومؤخراً تبدو خطابات الرئيس الأميركي مثل صراخ عابر المقابر الذي يخشى خياله في ليلة مقمرة… تبقى من الزمن أيام وتبدأ سلسلة أحداث وتحولات وستشرع في التبدل حسابات وتوازنات ستسعى واشنطن إلى إبطائها من دون شك لكنها قوة قاهرة تؤسس لوضع جديد كانت مقاومة شعوب الشرق ولادته التاريخية وقد تحمّلت إيران وسورية وقوى المقاومة مع روسيا والصين أكلافه الأعظم بصمودها وثباتها المذهلين.