وجوه التسمم اللبناني
ينشغل اللبنانيون بقضايا التسمم الغذائي التي حركتها حملة الوزير وائل أبوفاعور وهي تثير في آن معا مواجع انحلال الدولة وشلل المؤسسات الغارقة في حالة من الخراب والغافلة عمدا عن الفوضى التي تستبيح المحرمات جريا وراء تكديس الأرباح التجارية الفاحشة وهي تأكيد واقعي لحقيقة توحش الرأسمالية اللبنانية.
أولا أيا كانت مقاصد الوزير أبو فاعور السياسية وأيا كان المدى الذي سيذهب إليه وبغض النظر عن أي اختلاف سياسي مع أبو فاعور فإن ما قام به هو جزء من واجباته اليومية كمسؤول والطبيعي في بلد أقل من طبيعي ان تقوم البلديات في القرى والبلدات والمدن بفحص يومي لعينات من السلع الغذائية تبنى عليها تدابير قانونية عاجلة وفي الساعة السماعة دون جلبة ومن غير أي بطولات ولكن في بلد الإشعاع والنور يبدو الكشف عن الوقائع المرة والخطيرة معجزة وهنا قمة المفارقة.
لولا خراب النخب السياسية وفساد الإدارة كيف تكون معجزة عملية الكشف عن كل تلك الأرقام والنسب الصادمة حيث الوسخ يجتاح الهواء والأرض والأنهار والبحر والشواطيء وحيث الرأي العام تم تعقيمه مرة بالطائفية ومرات باليأس والإحباط من جدوى التحركات بفضل الأحزاب والنقابات المتبقرطة المخلدة بزعمائها ونافذيها والمنفصلة عن واقع العمالة التي يشغل جلها مقيمون سوريون ومصريون وآسيويون وبفعل تجمعات تدافع عن مصالح الناس بالتسميات الافتراضية التي لاتتجسد حركة فعلية في أي اتجاه ولو توافر فيها بعض المبادرين فسرعان ما يرغمون على الإنكفاء والتواري في غياهب الخيبة.
ثانيا تفاصيل قضايا التسمم الغذائي التي حركها الوزير أبوفاعور أعادت طرح ملفات تهدد حياة اللبنانيين وأبرزها: تلوث المياه الجوفية وتسمم الأنهار اللبنانية ، غياب آليات دائمة للرقابة الصحية ، شلل وفساد الأجهزة الوزارية المسؤولة عن الرقابة ، تفاقم ازمتي شبكات المجاري والنفايات المنزلية وبلوغهما مرحلة الخطر الذي ينذر بتسمم شامل للبيئة يهدد كل وجوه الحياة في لبنان .
إن جميع ردود الفعل والنقاشات التي تناولت ملفات التسمم الغذائي لم تتعرض لأي من هذه الملفات وبينما اتجه بعضها إلى مناكفة سياسية خارج الموضوع الأصلي تركز البعض الآخر على الدعوة إلى مراعاة مصالح قطاعين اقتصاديين هما السياحة المشلولة والصناعات الغذائية التي تدرعائدا مهما على الدخل الوطني الإجمالي من عائدها التصديري ومع وجاهة الطلب وعلى أهميته إلا أن المعالجة السليمة للمشاكل الفعلية تحصن هذين القطاعين وتزيدهما قدرة وتفوقا وكل كلام آخر ينطوي على شبهة تواطؤ في تورية الثغرات والمخاطر والتحايل عليها ولو قبلنا جدلا جميع الشكوك المثارة في جدية حملة الوزير فذلك لا يعفي أحدا من مسؤولية مواجهة ما كشفته فضائح الفحوصات المخبرية بتدابير وإجراءات عاجلة.
ثالثا نكتشف عند البحث في المشكلات علميا ان التصدي الصحيح لغالبية وجوه الكارثة الصحية والبيئية يطرح ضرورة تنشيط المجالس البلدية ومضاعفة مواردها وصلاحياتها إضافة إلى إصلاح الوزارات المعنية وتفعيل آليات الرقابة المركزية لكن العمل الجدي الحقيقي سيكون وقفا على فاعلية البلديات في إطار خطة وطنية شاملة.
الثروة المائية اللبنانية التي اعتبرت تاريخيا نعمة لبنان وعلامة تميزه في المنطقة ومصدرا لأطماع صهيونية مزمنة باتت عرضة للخراب مع تحويل مجاري الأنهر إلى مصبات مفتوحة للمجارير وللنفايات الصناعية ومرتعا للمزابل بجميع أنواعها والتصدي لإنهاء هذا التلوث الخطير يجب ان يكون اولوية وطنية حاسمة تتقدم سواها فنهضة الثروة المائية تعني نهضة زراعية وصناعية وتنقية للبيئة وضمانا أكيدا لسلامة الغذاء.
لذا ينبغي اتخاذ إجراءات فورية وعاجلة لمعالجة مشاكل الصرف الصحي بمحطات بلدية مؤهلة بيئيا وصحيا ووضع خطة شاملة لمعالجة قضية النفايات بغير طريقة سوكلين التي تتنقل بمكباتها بين القرى والبلدات اللبنانية حاملة معها الأخطار الصحية ومصادر التلوث .
رابعا يمكن للبلديات ان تتولى موضعيا بالمفرد او من خلال اتحاداتها إيجاد المعالجات المجدية وإعادة تدوير النفايات فالبلديات في جميع بلدان العالم المتمدن هي المسؤولة عن تنظيم المسالخ وعن المراقبة الدائمة للمنتجات الغذائية وللسلع المعروضة تجاريا ولمواصفاتها وهذا يتطلب تجهيزمراكز الأقضية وبلديات المناطق بالمختبرات المؤهلة وبأجهزة المراقبين الأكفاء علميا وقانونيا لممارسة الرقابة وتنفيذ التدابير اللازمة.
مظاهر التسمم تحاصر اللبنانيين الغافلين والصامتين بسبب تسمم الحياة السياسية بالعصبيات الطائفية وبعقلية البيع والشراء وبمنطق الربح المتوحش ولأن العمل العام انحدر من كونه مسؤولية ليصبح مغنما يدر الأرباح على شاغليه .
ويبقى بعد كل ما تقدم أن أخطر وجوه التسمم اللبناني هو التسمم العقلي الذي يولد استسلاما ويأسا امام اخطر المخاطر واكبر المصائب في كل شأن وطني سيادي أو أمني أو سياسي أو دستوري أو معيشي أو بيئي وفي صلب ذلك التسمم طاعون الطائفية القاتل.