ماذا يقول مسؤول إيراني كبير؟ حرب العقول والإرادات شارفت على النهاية في مسقط
لم تكن أي جولة تفاوض مباشر أو غير مباشر ذات دور وقيمة كمفاوضات السنوات التي عرفت بمفاوضات الخمسة زائداً واحداً، لأنها بداية الاعتراف الغربي بالبحث عن حلّ سياسي جدّي للأزمة مع إيران، التي يشكل الملف النووي عنواناً يختزن عناصرها لكنه لا يختزلها.
المفاوضات التي تشهدها مسقط ليست من ضمن مفاوضات الخمسة زائداً واحداً كسواها، فهي تجري محصورة بين ثلاثي أميركا وأوروبا وإيران وعلى مستوى وزراء الخارجية، وتأتي قبيل انتهاء المهلة المتفق عليها بخمسة عشر يوماً للإعلان عن الاتفاق النهائي، أو تمديد المهلة التي قال الفرقاء جميعاً إنهم لا يريدونها، أو إعلان الفشل الذي يصر الجميع على أنه لم يعد مقبولاً، بعد التقدم الذي تخطى كما قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف نسبة التسعين في المئة، وتجري المفاوضات في عاصمة سلطنة عمان مسقط التي تمتلك رمزية التفاهم باعتبارها صديقاً مشتركاً تحفظ له إيران مكانة خاصة، وتريد منحه مكافأة على حساب أقرانه وأشقائه الخليجيين، الذين كانوا دوماً أحد عناصر الاشتباك الأميركي الإيراني الأوروبي، ويشكل مجرد قبول الغرب بعقد الجولة في مسقط بدء توزيع لجوائز التفاهم قبل أن يولد، والمفاوضات تتوج محادثات ومراسلات متتابعة بدأت في نيويورك ثم جنيف وفيينا، جمعت على التوالي الوزير الإيراني محمد جواد ظريف والوزير الأميركي جون كيري والمفوضة الأوروبية كارين آشتون، وتوجتها رسالة الرئيس الأميركي للمرشد السيد علي الخامنئي.
شهدت سنوات التفاوض عبر إطار الخمسة زائداً واحداً مراحل من التجاذب بين واشنطن وطهران، لصناعة ميزان قوى يصيغ التفاوض، وصناعة وقائع تفرض حضورها في الملف النووي وملفات المنطقة الأهم لأطراف التفاوض، التي يمثلها الشرق الأوسط، وعلى رغم السعي الحثيث للأطراف لتفادي المواجهة، إلا أن التجاذبات بلغت درجة من الحدة والمصيرية والوجودية ما يتخطى في بعضها خطر حرب، فإذا كانت حرب «إسرائيل» على حزب الله عام 2006 حرب كسر عظم، فإن الحرب على سورية كانت حرب كسر الظهر.
في الحصيلة تبلورت معطيات نموذجية للتوصل للاتفاق، فعلى مستوى الملف التقني لامتلاك إيران قدرة نووية سلمية، تخطت إيران واقعياً وتخطى التفاوض سقوف التخصيب، الذي صار بداية حقاً مكتسباً لإيران وتالياً تخطى مرحلة الحق النظري المحفوظ في عقول العلماء، ليحسم كحق عملي، ويدور التفاوض على شأن تفصيلي يتصل بعدد مفاعلات الطرد المركزي التي ستقوم إيران بتشغيلها، وهو ما تبدو الحلول الوسط بصدده قريبة من أن تبصر النور، وقد تهيأ الرأي العام في الغرب والقوى السياسية في الحكم والمعارضة في دوله، لفكرة التعامل مع إيران عضواً كامل القدرة في النادي النووي.
في تشخيص التناقض الرئيسي الذي يحكم المنطقة الأهم في العالم التي تقع إيران في قلبها ويقع قلب أميركا وأوروبا عليها، مرت العقود الثلاثة من المواجهة، بين مرحلة ترى إيران التناقض بين إرادة الشعوب نحو الحرية ومقابلها الإرادة الطاغوتية للاستكبار العالمي، ورؤية أميركية للصراع بين محور خير تقوده ومحور شر يضم خصومها ومنهم إيران، ومرحلة تالية تراها إيران في الصراع الذي تخوضه المقاومة مع «إسرائيل» ككيان غاصب ومحتل ومعتدٍ، وتراه أميركا في الصراع الذي تخوضه المعسكرات الليبرالية التي ترى واشنطن أن «إسرائيل» تقع في طليعتها ضد التطرف والإرهاب الذي تراه واشنطن متجسداً بقوى المقاومة، وفي زمن الربيع العربي حاولت واشنطن تصوير القضية كلها بتغيير النظام في سورية تحت شعار سلوك طريق الديمقراطية، بينما كانت ترى إيران الحرب فيها وعليها بداية لتفكيك الكيانات السيادية في المنقطة، وتقسيمها على أساس طائفي ومذهبي ستكون «إسرائيل» لا الشعوب المستفيد الأول منه، ومن بعدها التطرف والإرهاب اللذان تمثلهما مشتقات «القاعدة» المختبئة سراً وعلناً تحت عباءة «الثورات». وها هي المرة الأولى التي يكون هناك تشخيص موحد لتحديد التناقض الرئيسي، بالمواجهة التي يفترض أن تستنهض كل القوى الدولية والإقليمية لاجتثاث خطر الإرهاب التكفيري، الذي يستجلب مريديه من كل أنحاء العالم لإقامة كيان استيطاني تكفيري عالمي في أشد مناطق العالم حساسية، ما بين نهري دجلة والفرات.
تحت سقف هذه المتغيرات حدث في الملفات الكبرى في المنطقة التي تقع إيران في قلبها ويقع قلب أميركا وأوروبا عليها، ما يسمح بإدارة الخلافات، ففي ساحة الاشتباك الرئيسي حول فلسطين وخيار المقاومة، يمكن ربط النزاع والتسليم الأميركي باستحالة تخلي إيران عن خياراتها ودعمها لقوى المقاومة، ولا تتوهم إيران بالأساس تغييراً أميركياً من جعل أمن «إسرائيل» في مقدمة أولوياتها، لكن ما أصاب «إسرائيل» في قدرتها الرادعة، وما أصاب معسكر المقاومة في علاقات أطرافه ببعضها البعض، يجعلان الحروب خطراً بعيد الحدوث، ويحتمل تقبلاً بارداً للخيارات المتباينة ولا يجعلها حاضرة في ساحات التفجير والمواجهة، وفي سورية تبخرت الرهانات على «معارضة معتدلة قادرة وقوية» وصار الخيار بين الإرهاب والدولة حصرياً أو يكاد، ويبدو الحل السياسي على قاعدة التسليم ببقاء الرئيس السوري بشار الأسد وتشكيل حكومة تضم مكونات المعارضة المعادية للإرهاب، والذي يترجمه الخط العريض لمسعى المبعوث الأممي قابلاً لتشكيل أرضية مشتركة مقبولة، وفي الخليج تسعى إيران لسياسة واقعية مع دول الجوار تزيل مناخات العداء لكنها تعتمد الواقعية في قراءة الأحجام والأدوار، فيما تبدو واشنطن مصدومة بمحدودية قدرات حلفائها قياساً بوعودهم وإدعاءاتهم خصوصاً في الحرب على الإرهاب وفي ضوء المتغيرات اليمنية، وفي شمال المنطقة تلتقي طهران وواشنطن على التفاهم حول ضرورة أخذ الخصوصية التركية في الاعتبار، لكن من دون أوهام بعد تجارب كليهما معها.
كل هذا يعني أن المصالح العليا للدولتين الأهم في صناعة السياسة في الشرق الأوسط، تدعو للتفاؤل، إلا إذا كان ما يصنع ومن يصنع السياسة في واشنطن، خلافاً لما قالته رسالة أوباما للمرشد، هم غير الأميركيين، خصوصاً في زمن الانتخابات.
حرب العقول والإرادات تشارف على النهاية وإيران ستكون فرحة بالوصول لنتائج تحقق الاستقرار، لمنطقة لا تحتمل اختبارات العبث والصبيانية، لكن إيران لن تشعر بالندم في حال الفشل، لأنها بذلت كل ما يجب للتوصل للتفاهمات، وستكون جاهزة لكل الاحتمالات، خصوصاً عندما تتأكد من أن الدولة التي تسعى لسلب الإرادة المستقلة لدول العالم، لا تفعل ذلك لحسابها، بل لحساب من سلب إرادتها كدول مستقلة.
هذا ما قاله مسؤول إيراني كبير في اجتماع ضم كبار صناع ملفات التفاوض والحرب عشية لقاء مسقط.
(البناء)