قراءة في الانقلاب الانتخابي الجمهوري الفرصة الاخيرة لاوباما: د.منذر سليمان
عوامل عديدة تكم الاداء الباهر للحزب الجمهوري في جولة الانتخابات الاخيرة، اعداد قادته المتقن وطويل الاجل لخوض الجولة، وافلاح جهوده لاعادة تقسيم الدوائر الانتخابية بما يضمن وصول مرشحيه للمناصب المطلوبة، منذ عام 2010؛ والاعتماد المكثف على دور المال السياسي في حسم العديد من المنفسات الانتخابية المتقاربة وفق ما كانت استطلاعات الرأي العام توفره.
راهن الحزب الجمهوري محقا على توظيف عدد من مزايا خصمه خدمة لبرنامجه: ضعف اداء معظم مرشحي الحزب الديموقراطي، وبؤس توزيع موارد الحزب المالية المطلوبة للحملات الدعائية، فضلا عن غياب حماس القاعدة الانتخابية لتبني خطاب الحزب الديموقراطي ثمرة حملة منظمة بتمويل وفير من الحزب الجمهوري لشيطنة الرئيس اوباما وتحميله مسؤولية الاخفاقات السياسية، داخليا وخارجيا.
ذهب البعض للمجاهرة بأن قواعد اللعبة الانتخابية تم تزويرها منذ البداية لصالح الحزب الجمهوري. شبكة “ان بي سي” للتلفزة وصفت فوز الحزب الجمهوري بأنه “واسع وعميق، كئيب للبعض وربما مخيف بعض الشيء.” اسبوعية “رولينغ ستون” نشرت تحقيقا موسعا عنونته “كيف يزيف الجمهوريون المشهد،” عدد 11 تشرين الثاني 2013، اوضحت فيه الالاعيب التي يلجأ اليها قادة الحزب “لتزييف الانتخابات، وقمع الناخبين واللجوء الى الحيل والخداع لاستغلال الثغرات القانونية” لتثبيت اجندتهم. الحزب الديموقراطي، في المقابل، ليس بريئا بالكامل كما انه ليس الضحية، وهو المشارك مشاركة تامة بتقاسم مغانم اللعبة السياسية واقصاء اي توجهات او تيارات اخرى قد تهدد امتيازات الحزبين.
للدلالة على ما تقدم من عبث واستخفاف، نستعرض المشهد الانتخابي في ولاية بنسيلفانيا التي تعرضت لحملة تقسيم قاسية لدوائرها الانتخابية بدافع محاباة الناخبين الجمهوريين: اسفرت نتيجة الانتخابات الاخيرة عن تفوق مرشحي الحزب الديموقراطي بنحو 83،000 صوتا تمثل نسبة 44% من مجموع اصوات الناخبين، بيد ان نتائج الفوز اشارت الى نيل الديموقراطيين 5 مقاعد في مجلس النواب من مجموع 18 مقعدا في مجلس النواب مخصصة لها وفق الدستور. بعبارة اخرى، ترجمت النسبة المعتبرة الى اقل من 28% من مجموع المقاعد، وهكذا يتم التحايل على الارادة الشعبية عبر تقسيمات مغرضة للدوائر الانتخابية لتخدم حزبا دون آخر. الأمر عينه تكرر في عدد آخر من الولايات “الهامة والمحورية” بنظر الحزبين: بنسلفانيا، نورث كارولينا، جورجيا، فلوريدا، تكساس، لويزيانا، اريزونا، تنسي ومناطق اخرى.
تحديات ومناكفات دستورية في الافق
انقلاب موازين القوى في المشهد الراهن سبق وان تكرر ابان ولاية الرئيس الديموقراطي الاسبق بيل كلينتون، اذ فاز الجمهوريون بمجلسي الكونغرس، تحت زعامة نيوت غينغريتش. بيد ان الرئيس تصرف بحنكة ومهارة عالية حاز فيها على دعم السلطة التشريعية لسن قوانين اصلاحية وتحقيق التوازن في الميزانية.
الرئيس اوباما يفتقد الى الحنكة والبراعة التشريعية التي تمتع بها بيل كلينتون، فضلا عن العامل العنصري لدى نسبة غير بسيطة من اعضاء الحزب الجمهوري، لا سيما الاشد محافظة في تيار حزب الشاي. الامر الذي يؤشر على عسر المهمة التي تنتظره في كسب ثقة الكونغرس للتعاون المشترك وتحقيق مساومات ونيل موافقته بالمصادقة على عدد من المشاريع الهامة للرئيس.
بالمقارنة مع الرئيس كلينتون، فان اوباما لا يبدي ميلا للمساومة والتوصل لحلول وسطية. تجسد ذلك في مؤتمره الصحفي الاخير غداة هزيمة الحزب الديموقراطي مؤكدا عزمه المضي لتحقيق اجندته. وقال “.. انا على يقين بانني ساقدم على اتخاذ بعض الاجراءات التي لا يحبذها بعض اعضاء في الكونغرس.” يذكر ان الرئيس اوباما لم يحالفه الحظ بذلك ابان سيطرة حزبه على اغلبية مجلس الشيوخ.
امام هذه العقبة، يخول الدستور الاميركي الرئيس اصدار “قرارات تنفيذية” تحل مكان قرارات الكونغرس، والتي سعى الرئيس اوباما لتطبيقها في عدد من الحالات. اعتاد الرئيس اوباما على ممارسة حزبه بموقع الاغلبية في مجلس الشيوخ لابطال وافشال مشاريع وميزانيات مقترحة صادق عليها مجلس النواب بزعامة الجمهوريين.
انقلاب موازين القوى الاخير سيفرض تحديات مضاعفة على الرئيس اوباما، لا سيما لعدم قدرة الاقلية في مجلس الشيوخ تعطيل اي قرارات، خاصة تلك التي تستدعي موافقة اغلبية بسيطة من الاعضاء، 51%. وسيستغل خصومه الجمهوريون نفوذهم الجديد للمصادقة على قرار “اعادة التوازن للميزانية” وقرار “اعادة النظر بعمل الكونغرس لعام 1996” واللذين باستطاعة الاغلبية البسيطة المصادقة عليهما، الأمر الذي سيترك تداعيات سلبية على صلاحيات وقرارات الرئيس اوباما.
القانون الخاص بالميزانية يخول الكونغرس سن قرار تمويل الحكومة دون حق اللجوء لاستخدام سلاح التعطيل، الذي ابطل مفعوله سابقا. استغل رئيس مجلس الشيوخ الديموقراطي، هاري ريد، ذاك الاجراء للمصادقة على قرار الرعاية الصحية الشاملة الذي تعرضت جلسات مناقشاته لخطابات مطولة اشهرها للسيناتور تيد كروز الذي بقي يتحدث لمدة 24 ساعة متواصلة بغية تعطيل الاجراء.
ما يقلق الرئيس اوباما في هذا القرار تحكم الكونغرس بآلية الصرف والانفاق من قبل السلطة التنفيذية. اذ باستطاعة طاقم الكونغرس الجديد تحديد السقف الاعلى للرئيس للصرف على بند “العفو عن الهجرة غير الشرعية” وحصر الكلفة بمبلغ مقطوع لكلفة طلبات الحصول على الهجرة. كما يخشى استغلال الحزب الجمهوري للبند المتعلق بآلية صرف اي هيئة حكومية وحرمانها من الانفاق على جهود تطبيق القوانين المعمول بها.
لدى الرئيس صلاحية استخدام حق الفيتو لابطال اي مشروع مقدم لا يناسبه، اما الغاء الفيتو فيتطلب نسبة الاغلبية المطلقة، ثلثي الاعضاء، لدحضه. يدرك الرئيس اوباما ان لجوءه لتلك الصلاحية اجراء محفوف بالخطر سيما وان الجولة الانتخابية القادمة ستعقد عام 2016 وما ستتركه من تداعيات على جمهور الناخبين. من المرجح ان يلجأ الجمهوريون لتحديد مجالات تقليص الانفاق الفيدرالي، كبرنامج الرعاية الصحية، طمعا في نيل رضى القاعدة الانتخابية، بالاضافة الى الخشية من انضمام بعض الممثلين عن الحزب الديموقراطي لجانب خصومهم لاستكمال نسبة الثلثين، سيما وان عددا منهم ينوي اعادة ترشيحه للمجلس.
الحيل السياسية الطامعة في تقييد سلطات الرئيس وفيرة ولا تنضب عند خصومه، منها مصادقة الكونغرس على عدم المساس ببعض برامج الرعاية، مثل الرعاية الاجتماعية، من جانب، وفي الجانب الآخر ابطال مفعولها باستحداث قرار جديد يتطلب مصادقة الرئيس يتضمن مجالات تقليص الانفاق. في حال استخدام الرئيس صلاحيته بقرار الفيتو سيترك تداعيات سلبية على هيئات حكومية ضرورية للحزب الديموقراطي يناهضها الاعضاء الجمهوريون مثل هيئة حماية البيئة ووزارة التربية وهيئة الاشراف على الاغذية والادوية.
قرار “اعادة النظر بعمل الكونغرس لعام 1996” ينص على حق مجلسي الكونغرس مراجعة ونقض اي اجراء حكومي جديد، محصنا بعدم جواز تعطيله او تأجيله في اروقة مجلس الشيوخ. في ظل هذا “الانقلاب الدستوري” باستطاعة الرئيس اوباما استخدام حقه في نقض القرارات التي تتطلب موافقته لسنها، وهو ما لا يرجحه المراقبين. خطورة هذا القرار تكمن في تخويل مجلسي الكونغرس بزعامة الحزب الجمهوري تجاهل وتعطيل اي قرار لا يعد مناسبا وعدم ادراجه على جدول الاعمال لمناقشته، فضلا عن ممارسة حق نقض فيتو الرئيس. من المرجح ان يستخدم الجمهوريون الاساليب المذكورة لتعطيل فعالية الرئيس اوباما فيما تبقى له من زمن ولايته الثانية.
السياسة الخارجية تحت المقصلة ولكن ..
تزامن مع اعداد التقرير تسريب عن رسالة سرية موجهة من اوباما لمرشد الثورة الايرانية اية الله خامنئي، ويبدو انه ارسلها كبادرة حسن نوايا ومجاملة دبلوماسية بمناسبة خضوع المرشد لعملية جراحية وتهنئة بنجاحها. وبقطع النظر عن التأويلات المختلفة لتوقيت التسريب والجهة التي اقدمت عليه تؤشر هذه الرسالة على رغبة شديدة لدى اوباما بان ينجز اختراقا واتفاقا مع ايران حول الملف النووي. امام اوباما فرصة لكي يحقق انجازا شبيها بما حققه نيكسون – مع الصين – الذي كان يعاني وضعا ضعيفا مشابها لاوباما على الصعيد الداخلي، وقد يكون تحقيق ذلك الانجاز الاساسي لحقبة اوباما والذي يمكن ان يدخل التاريخ مجددا منه.
هذه الفرصة محدودة زمنيا لموعد استلام الجمهوريين لزعامة مجلسي الكونغرس في يناير 2015 ويبقى السؤال هل سيجرؤ على الاقدام وهل ستمكنه المرونة الايرانية من احداث الاختراق الذي سيكون تاريخيا ومفصليا تجاه مستقبل منطقة الشرق الاوسط وملفاتها الشائكة.
السلطة التنفيذية هي المخولة دستوريا تطبيق السياسة الخارجية او العسكرية، بيد ان الخصوم من الجمهوريين سيفعلوا كل ما بوسعهم للمزاحمة والتضييق على سلطات الرئيس، نظرا لأن اقرار الميزانيات هي بيد الكونغرس حصرا، كما يحتفظ مجلس الشيوخ بحق المصادقة على التعيينات الرئاسية لمناصب ديبلوماسية والموافقة على المعاهدات.
وسارع عدد من الطامحين من قادة الحزب الجمهوري الى البوح صراحة بالتوجهات السياسية المطلوبة، اهمها جون ماكين الذي يرجح تبوئه منصب رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، والداعي الى تسليح المعارضة السورية والطاقم الحاكم في اوكرانيا. وسيستغل منصبه الجديد افضل استغلال لتحقيق اجندة معسكر الحرب ومصالح الشركات الكبرى كممثل وفي لها.
في هذا الصدد، ارسل الرئيس اوباما رسالة تصالحية لخصومه بانه قد يتوجه للكونغرس للحصول على تفويض جديد يخوله محاربة داعش، وما ينطوي عليه من تخصيص ميزانيات معينة خارج بنود الميزانيات المقررة سلفا. نادى خصومه باستمرار انه يتعين عليه التوجه للسلطة التشريعية طمعا في التفويض يعينه على تنفيذ استراتيجيته طويلة الأمد في “محاربة داعش” واعادة اصطفاف القوات الاميركية في المنطقة بعد “خروجها” من العراق.
وبدا لاول وهلة ان الرئيس اوباما يتبنى خطاب خصومه الجمهوريين فيما يخص الحرب الدائرة في سورية والعراق. واوضح ان بلاده تواجه “عدو من نوع مختلف .. والاستراتيجية المطلوبة ايضا مختلفة.” واضاف في ما بدى استمالة خطاب خصومه بالقول “منطقي بالنسبة لنا التيقن من هدف تفويض الكونغرس كانعكاس لادراك ما نراه استراتيجية ينبغي المضي بها لفترة شهرين او ثلاثة أشهر .. بل صلب استراتيجية تخولنا المضي قدما.”
تتقاطع رؤى السلطيتين التنفيذية والتشريعية حيال سورية وداعش بعض الشيء، بيد ان الصراع يطبع رؤيتيهما فيما يتعلق بالتوصل الى اتفاق مع ايران حول ملفها النووي، وليس مستبعدا ان يلجأ الكونغرس الجديد استغلال سلطته لاقرار التمويل لابطال تطبيق بعض بنود الاتفاقية.
ومن هنا تبرز أهمية نجاح الرئيس اوباما في التوصل لاتفاق مع ايران في الموعد المحدد، 24 الشهر الجاري، او قبله، لدرء تقييد حريته مطلع العام المقبل عند بدء الكونغرس الجديد ولايته الرسمية. وليس مستبعدا ان يلجأ الجمهوريون عقب تسلم مهامهم الجديدة لطرح الاتفاق على بساط البحث بغية احراج عدد من الاعضاء الديموقراطيين في التصويت ضد الرئيس اوباما او الاصطفاف الى جانب رفع القيود عن اجراءات المقاطعة، خاصة اولئك الذين سيخوضون جولة الانتخابات التجديدية المقبلة عام 2016.
من نافل القول ان التركيبة الجديدة لمجلسي الكونغرس تتميز بتحيزها “لاسرائيل” وميل طاقمها للموافقة على مزيد من الهدايا والعطاءات الاميركية.
الاجندة الداخلية
فوز الجمهوريين سينعكس مباشرة على عدد من القضايا والملفات الخلافية الداخلية: برنامج الرعاية الصحية، رفع الحد الادنى لمستوى الاجور، تسهيل قروض التعليم، تشديد قوانين الهجرة باتجاه تضخيم الاجهزة الأمنية لمواجهة المهاجرين القادمين من الجارة الجنوبية تحديدا، والمصادقة او تعطيل المصادقة على مرشحي الرئيس لمناصب ديبلوماسية وقضائية.
اوباما وحلفاؤه يدركون تماما ما ينتظرهم من متاعب مقبلة، وسيسعى الرئيس بكل ما اوتي من عزم لانجاح بعض القضايا الهامة مستغلا ما تبقى من ولاية الاغلبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ. اولى بوادر الاجراءات اعلانه نهاية الاسبوع الجاري مرشحته لمنصب المدعي العام الفيدرالي خلفا لاريك هولدر الذي يكن له معظم الجمهوريين عداءً بيناً.
من اهم بؤر الخلافات بين السلطتين مسألة اصلاحات قوانين الهجرة الراهنة، ومطالبة القاعدة الشعبية لا سيما لدى الحزب الديموقراطي بمنح المصنفين “غير شرعيين” عفوا عاما يؤهلهم الاندماج التام في النسيج الاجتماعي وما ينطوي عليه من حقوق وواجبات، لا سيما في دفع الضرائب المتراكمة.
واوضح الرئيس اوباما في مؤتمره الصحفي الاخير عزمه العمل مع الكونغرس “لسن مشروع اصلاحي شامل لقوانين الهجرة” مؤكدا عزمه على “بذل كل ما بوسعه من صلاحيات دستورية لاتخاذ اجراءات قانونية من شأنها تطوير قوانين الهجرة المعمول بها.” وحذر خصومه بأنه لا ينوي “الانتظار” بل سيلجأ للمبادرة سريعا، مدركا في الخلفية قيود الميزانية التي سيلجأ اليها خصومه لتقييد حرية حركته المنصوص عليها دستوريا. وسارع عدد من اعضاء مجلس الشيوخ المتشددين عن الحزب الجمهوري توجيه كتاب تحذيري لرئيس المجلس، هاري ريد، ينذرون “بأزمة دستورية” في حال لجوء الرئيس اوباما استخدام صلاحياته الدستورية لاقرار اجراءات لها قوة القانون.
كما انذر الموقعون رئيس المجلس بنيتهم تعطيل المشروع الجاري لتمويل الحكومة الفيدرالية الى ما بعد فترة 11 من كانون الاول المقبل في حال اخفاقه “التصدي لتجاوزات السلطة التنفيذية،” وكذلك اللجوء الى “الوسائل الاجرائية” المتاحة لفرض نقاش المسألة على جلسات مجلس الشيوخ بغية “حسم الازمة الدستورية التي تسبب بها الرئيس اوباما في قرار العفو المناهض للقانون.”
على رأس سلم اولويات الحزب الجمهوري المصادقة العاجلة على انشاء انبوب نقل النفط الكندي الى السواحل الجنوبية للولايات المتحدة “كي ستون اكس ال،” ترجمة لتعهداته بمحاباة كبريات شركات النفط والطاقة. عمدت ادارة الرئيس اوباما الى تأجيل البت في المصادقة عليه نظرا لجملة معطيات، اهمها معارضة قوية من قوى اجتماعية متعددة في ولايات الوسط التي سيمر بها خط الانابيب، فضلا عن معارضة شرسة لانصار البيئة لما ينطوي عليه من مخاطر “انبعاث غاز المناجم والمستنقعات – الميثان، وتلوث الابار الجوفية ..” يذكر ان عددا من اعضاء الحزب الديموقراطي يدعمون قرار المصادقة على الخط، الأمر الذي سيستغله القادمون الجدد في الدورة المقبلة.
من اولويات الفريق القادم ايضا “تقليص” العمل ببرنامج الرعاية الصحية الشامل – اوباما كير، الغاء الضريبة المفروضة على المعدات الطبية وايقاف العمل بالزام ارباب العمل توفير التغطية الصحية للعاملين في حده الادنى.
جدير بالذكر في هذا الصدد تراجع الرئيس اوباما عن تعهداته لقواعده الانتخابية، في ولايتيه الرئاسيتين، خدمة لمصالح رؤوس الاموال والشركات الكبرى وممثليها في الكونغرس من الحزبين: وافق اوباما على مقايضة تخفيض معدلات الرعاية الاجتماعية ورواتب التقاعد والرعاية الطبية مبكرا مقابل موافقة الفريق الآخر على “مبدأ” اعادة النظر بنظام الضرائب المفروض على الشركات وكبار الاثرياء؛ فضلا عن تعزيزه اركان الدولة البوليسية والاستخباراتية ممثلة بتجسس وكالة الأمن القومي على الداخل والخارج؛ واستئناف مراكمة الترسانة النووية التي، للمفارقة، اقدم الرئيس ريغان على تقليصها، بكلفة تقدر بما ينوف عن تريليون (الف مليار) دولار.
آفاق الانتخابات الرئاسية المقبلة
من المفيد استعادة الدوافع الرئيسة التي حفزت الناخبين للتصويت لصالح الرئيس اوباما في ولايته الاولى، وفريق حزبه في الكونغرس، لعل اهمها جاء على خلفية نبذ السياسات الاقصائية ومغامرات المحافظين الجدد وانصارهم الليبراليين الجدد في التدخل والعدوان خارج الاراضي الاميركية، وما ترتب عليها من ازمة اقتصادية لا زالت اصداؤها تتردد للزمن الراهن، فاقمها الرئيس اوباما بانحيازه لجانب رأس المال والشركات المصرفية الضخمة في وول ستريت، شريحة 0.01%، على حساب الغالبية الساحقة من الشعب؛ وتبنيه للحروب الدائمة والشاملة في العالم العربي والمنطقة المحيطة.
يشير عدد من كبار المختصين بتحليل نتائج الانتخابات الى تصاعد ونمو ودور العامل العنصري في الانتخابات الاخيرة، ساهم الى جانب عوامل موضوعية اخرى، في مفاضلة وبروز التيارات الاشد محافظة بين الفريقين. واوضحت اغلبيتهم انه يتعين على القوى والتيارات الاميركية “الاعتراف بدور عامل العنصرية كتيار محوري في البنية السياسية الاميركية .. والدوافع العنصرية للنتائج التي اسفرت عنها انتخابات عام 2014 ” الى جانب استغلال القوى المؤثرة لعامل “الخوف والذعر” الذي رسخته السياسات المتلاحقة في الذهن الشعبي، تجسدت في “المبالغة في خطر وتهديد الدولة الاسلامية، وغزو اطفال اميركا الوسطى، وفيروس ايبولا القادم من افريقيا.”
الثابت في نتائج الانتخابات انها ابرزت عدد من الطامحين سياسيا بين الفريقين، واطاحت بآخرين ليس بسبب عزوف الناخبين عن الادلاء باصواتهم فحسب، بل لتراجع ثقة العامة في جدوى الانتخابات التي سجلت ادنى نسبة في تاريخ الانتخابات الاميركية، اقل من 36% شاركوا في الانتخابات. المفارقة تكمن في ادانة المسؤولين الاميركيين لنتائج الانتخابات في شرقي اوكرانيا، دونيتسك ولوهانسك، التي شهدت نسبة مشاركة عالية اكثر من 60% من الناخبين على الرغم من تهديد القصف المتواصل لقوات حكومة كييف.
الخسارة الاكبر لفريق الحزب الديموقراطي كان في مناصب حكام الولايات التي عوِّل على عددم منها لتعديل كفة الانتخابات المقبلة، وجاءت بعض النتائج صادمة للجميع، اهمها في ولاية ماريلاند، الملاصقة للعاصمة واشنطن، التي فضلت مرشح جمهوري على سياسي مخضرم من الحزب الديموقراطي. يلعب حكام الولايات في الانتخابات الاميركية دورا محوريا هاما، ليس في بعد تسخير الامكانيات العامة لصالح فريق محدد، بل في اعلاء شأن فريق مفضل عبر سن قوانين محلية، كما شهدنا في ولاية فلوريدا التي “رجحت” فوز الرئيس الاسبق جورج بوش على خصمه آل غور على الرغم من رجحان كفة الاصوات لصالح الاخير.
عزوف عدد من المرشحين الديوقراطيين عن الظهور العلني بجانب رئيس الحزب ورئيس البلاد اثبت عقم الاجراء للتقرب من الشرائح المعارضة للرئيس وسياساته، وربما سيسعى استراتيجيو الحزب الاستفادة من تلك “السقطة” في الجولة المقبلة. الفريق الفائز في هذه الدورة سيواجه عدة متاعب في الجولة المقبلة عام 2016، أهمها اتضاح نزعة السيطرة والنفوذ السياسي على حساب الاعتبارات والمصالح الشعبية، واخفاقه في معالجة عدد من التحديات، بل التراجع عن بعض المكتسبات للشريحة الكبرى من المجتمع: برامج الرعاية الصحية ورواتب المتقاعدين مثالا.
دور المال السياسي“الرشوة السوداء المقننة“
جولة الانتخابات الحالية تعد الاولى التي تحررت من القيود المفروضة للحد من تضخم التبرعات لمرشح معين، ثمرة لقرار المحكمة العليا عام 2010 الذي “فتح باب التبرعات على مصراعيه” دون اي قيود او ضوابط تذكر. وعليه، برز دور الممولين الكبار بشكل علني لم يسبق له مثيل في تمويل الحملات الانتخابية والدعائية التي تضخمت لمستويات غير مسبوقة في تاريخ الانتخابات الاميركية. وقدر كلفة الحملات من الطرفية بنحو 4 مليار دولار جاءت نتيجتها مطابقة لتوقعات مصادر الدعم، على رأسها امبراطوريات المال العائدة “للاخوين كووك، وشيلدون اديلسون.”
برز تأثير قرار المحكمة العليا في مجالات شتى بعيدة عن اجراءات الرقابة والمحاسبة والشفافية، واستدخل مصطلح “الاموال السوداء،” مجهولة المصدر والحجم، لتمويل الحملات الانتخابية المتعدة. في السابق، عمد كلا الحزبين ومؤيديهم على استنساخ بعضهم بانشاء صناديق مالية لدعم الانتخابات ذات تفرعات متشعبات متعددة، ليس بدافع تنويع مصادر الدعم فحسب، بل للتحايل على القيود المفروضة.
في الجولة الانتخابية الراهنة، تجسدت مصادر “الاموال السوداء” في عدد من السباقات الانتخابية المحورية، لا سيما نورث كارولينا، التي بلغ معدل الدعايات المتلفزة بث واحدة كل 50 ثانية، في الايام الاخيرة للسباق، الاعلى كلفة في تاريخ السباقات الانتخابية الاميركية لمنصب عضو مجلس الشيوخ. وقدرت الكلفة الاجمالية بما ينوف عن 100 مليون دولار.
في ولاية كنتاكي، تبنت مجموعة مجهولة “تحالف الفرص لكنتاكي” نفقات الصرف على “12،000” دعاية متلفزة لمرشحها المفضل، ميتش ماكونل. يزعم “التحالف” في الوثائق الرسمية استقلاليته عن اي من المرشحين، بيد ان السجلات الرسمية اشارت الى ادارة المجموعة من قبل “مساعد سابق لميتش ماكونل” كأحد فروع حملته الانتخابية.
ايضا، استعاد ثلاثي اباطرة تمويل الحزب الجمهوري بريقه ودوره المحوري في هذه الجولة، ممثلا بـ “كارل روف وشيلدون آديلسون والاخوين كووك،” عبر مؤسسات مستحضرة لهذا الغرض. وحصد الاول 6 مقاعد من مجموع 10 انفق عليها في عدد من الولايات وقد يحصد مقعدين اضافيين في ولايتي الاسكا ولويزيانا اللتين لن تحسم نتائجهما الا مطلع العام المقبل. حصيلة مماثلة سجلها الاخوين كووك، اذ فاز 5 مرشحين من مجموع 9 تم دعمهم بكثافة.
بالمقابل، ممول حملات الحزب الديموقراطي الاكبر، توم ستيير، انفق نحو 73 مليون دولار دعما لمرشحين موالين لاجندته “التقدمية،” وحصد نتائج متواضعة نسبة لحجم الانفاق: استطاع الاطاحة بمرشحين للحزب الجمهوري ومرشح آخر لمنصب حاكم الولاية – توم كوربيت في ولاية بنسيلفانيا، واخفق في ولايتي فلوريدا وماين.
تجدر الاشارة الى ان تركيبة مجلس الشيوخ الراهنة تضم العضو الوحيد المصنف مستقلا عن الحزبين، بيرني ساندرز، الذي ادان علنا “مصالح اصحاب المليارات” في تحديد نتائج الانتخابات. وقال عشية الانتخابات انه يتعين على الجمهور الاميركي بلورة اجندة تصادمية لاقصاء “شريحة المليارديرات” عن التحكم بالعملية الانتخابية، مطالبا بتعزيز العرف السابق “بالتمويل العام العلني للانتخابات كي لا يستطيع اولئك شراء الانتخابات.” ساندرز لم يهمل عامل “الشركات الكبرى” وتبرعاتها الضخمة لصالح مرشحين من الحزبين اذ دأبت على المراهنة على الطرفين سوية، وان بنسب متفاوتة.