جمهورية “الديكتاتورييين” بلا دستور نسيم الخوري
“إحتفل” بعض اللبنانيين وعلى رأسهم حسين الحسيني الذي يسعده أن يقال له “عرّاب الطائف” بمرور ربع قرن على إتّفاق الطائف، معاندين ركام الدول من حولنا. إحتفاء ضحل ولا قيمة أو معنى له أضعه هو وأهله بين قوسين. لماذا؟ لأنّنا نعيش وكأننا بلا دستور.
ولد اتفاق الطائف،منذ الأساس،نصّاً مشدوداً بين الرافضين له وتزعمهم ميشال عون، والنواب المشاركين في لقاءات الطائف الذين أقرّوه ولم يتحمّسوا له إلاّ اعلامياً، وبين التوفيقيين أيضاً الذين اعتبروه تلبيةً للضغوط التي تحفظ موازين القوى الإقليمية والدولية. يتضمن حسنات وسيئات مثله مثل كل الاتفاقات. لم يدخل معارضونه وفي رأسهم سمير جعجع حكومته الأولى معتبراً أن المشاركة تصحّ من موقع المعارضة، وهذا عنوان الديمقراطية. لم يشعر اللبنانيون بروحيّة هذا الإتّفاق الذي صار دستوراً، وبقيت صورة الوطن البارزة تغرق في أجواء الكوارث التي كان يذكّيها عدم وضوح ملامح الجمهورية اللبنانية الجديدة.
ما هي عناصر الأزمة اللبنانية منذ ذلك التاريخ:
أ– اعتبر اتفاق الطائف اتفاق تسوية بين اللبنانيين. وإذ تفترض فلسفة التسوية التنازل عن جزء من المطالب والحقوق، فأمر لم يحصل إلا لتعويض الأطراف الأساسية إعادة توزيع السلطة في ما بينها. ومع ذلك، لم تتوقف الحملات الرافضة له، بل ارتفعت نبرتها، وغالت في مضامينها، فكشفت التفسخات وتجددت لغة التفتيت والتقسيم المستحيل، وبدا أن النص ينهار بين مطالب المعارضين والموالين والمقاطعين والمستقيلين والمبعَدين والمسايرين والمستقلين واللامبالين. المهمة الوحيدة المنجزة في الطائف، كانت نقل الوطن من مناخ الصراع المسلح الى السلم الهش المشكوك بصلابته، لأن السلم كان ثمرة ضغوط خارجية لم يولّد تفاعلاً ديمقراطياً ولم يحَل الأحزاب كلّها ولم يدخل في صلب المؤسسات الدستورية المنبعثة من تحت الركام بعد شللها. ولم يكن بالامكان إعادة النظر الشاملة بها. وكانت النتيجة اهتراء متراكماً، لأن الوطن كان إسمياً في الجمهورية الثانية ويُدار بذهنية الأولى التقليديّة. لم تكتمل التسوية وكان الكلّ وما زال في ترقّب ظروف مستجدة تحقيقاً للمطالب والطروحات نفسها التي سبقت الطائف، وربّما بأسماء أو أحزاب أو أفكارٍ جديدة.
ب – خضعت هذه التسوية للرعايات ممّا عرقل جوهر الحوار الوطني حيال تطبيق اتفاق أو نص دائري مقفل طرح كاملاً غير قابل للتجزئة متضمناً مجموعة كبرى من القضايا والمسائل التي تحتاج إلى توضيحات وحوارات. وصار تجديد الحوار بالنسبة إلى البعض المطالبة بالعودة عن هذا الاتفاق أي إلى ظروف ما قبل الطائف وهو أمر مستحيل لبنانياً وإقليمياً ودولياً، حتى أن إعادة النظر في بعض بنود الاتفاق في مضامينها أو تراتبيتها كان يعتبر مغامرة قد تنسف الاتفاق وتعيد اللبنانيين إلى دوامة العنف، لأنّ البحث في أي بندٍ من بنوده مجدداً مراعاة لأحد الأطراف، كان سيؤدي إلى إعادة النظر في بنود أخرى ومن أطراف أخرى، وهذا ما كانت يحمل توجّساً من الارتداد على الاتفاق والعودة إلى ما قبل الطائف أي الى الفراغ وكان هذا الخيار مستحيلاً أيضاً حتّى حلّ “الفراغ” مجدّداً يرمي اللبنانيين بين السلم والحرب.
بهذا المعنى كان الطائف أشبه بمنصّة أو مطحنة إعلاميّة ترسم أشباه ملامح وأوهاماً في ملامح الأفق اللبناني، أمام الأطراف المتفرجة التي كانت تتوق إلى الحوار من ناحية وإلى إحياء مشاريعها الخاصة من ناحية أخرى. وهذا ما أدّى إلى ضياع القرارات الموحدة التي جرّت الى صراعات طائفية ومذهبية بين من يتصدّرون المنصّة المطالبين بضرورة تعديل الكثير من بنود الطائف التي تغذّي الانقسام.
ج – إستبدّ بالخطاب السياسي، وخصوصاً لدى معظم أهل الطائف ازدواجية متعددة الأبعاد،ممّا أفقده مضمونه وسلطته الدستورية وحتّى شكله عبر العهود الرئاسية المتعاقبة، وتأسّس هذا كلّه بسببٍ من الإزدواجية في الخطاب السياسي للمسؤول الواحد وزيراً أو نائباً متحمساً علانية للطائف وضده سراً، كما للمسؤولين والأطراف المتحالفة والمتناقضة الحزبية بل المتحاربة فعلياً. عانى الاتفاق – الوثيقة- الدستور إذاً، من أهله الذين لم يتمكنوا، أو أنهم لم يشاؤوا تسويقه لبنانياً، على الأقل، بين المواطنين “توازناً” مع الكثر الذين تناولوه. وبدا اللبنانيون في وادٍ وأهل الطائف في وادٍ آخر وبدا النص يتيماً لا من يتبناه أو يتواصل معه كمرجعية. يمكن القول ان اللبنانيين بدوا وكأنهم أخرجوا نهائياً بالمعنى الاعلامي والسياسي من لبنان الرسمي الى لبنان القطاعٍ الخاص الحافل بالخصوصيات والمصالح الضيقة.
د – بدا اتفاق الطائف مشوهاً في صورته الاعلامية ويعمق الصراع بين اللبنانيين، خصوصاً، بعد الانتخابات النيابية (1992) حيث طرحت مسألة التمثيل أو المرجعية، قطعاً للطريق على كل من يلح بضرورة إعادة الحوار، وهنا قمة تحلّل بعض السلطات السياسية. كان المسيحيون، مثلاً، الرقم المتقدّم، لأن الإرادة الدولية إستفادت منهم تاريخياً في حقول المسألة الشرقية لمصالحها وتحوّلوا الى ورقةً وفراغٍ في كرسي الرئاسة. لماذا؟ لأنهم كانوا محظيو الغرب لكن الشرق الأوسط كله تحوّل الى ملعبٍ للغرب ولم يعد هناك من شرق بالمعنى العربي للكلمة بل شرق إسلامي. يتفكك المسيحيون وينهارون في صراعاتٍ وإنقساماتٍ صعبة بعدما عاشوا إرباكاً سياسياً. يتوقون إلى إستعادة سلطاتهم ومواقعهم لكنّهم يمضغون العجز تماماً كما مؤسسات الحكم. ونقيض الحكم هو الفوضى تساويه في العجز، مقابل دعوات أصولية متجذرة ومتنامية كانت تعمل في السلم ربّما أفضل من ظروف الحرب بكثير، لذا بدا خطر السقوط شاملاً بالنسبة لكلّ من خرج من “سقطة” الجمهورية أو بقي فيها يعاني سقوطاً أو عجزاً ما. لا تستجيب الحكومات ولا يشرّع والشعب لا يحاسب. وإذا كان “لكل اتفاقية في العالم روح ونص، فالنص قد توضح في اتفاق الطائف، أما الروح فغير موجودة أبداً…ومصيبة الطائف أنه تحوّل مثل الايمان، إمّا أن تكون معه أو ضدّه. كان لا يمكن للزعامات نفسها أن تجمع بسهولة بين النص المتجدّد والممارسة التقليديّة، وكأنّك تجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل. كما أنّ بناء الأوطان والدساتير في العالم، كان لا يمكن ضمان حمايتها ممّن ينفذونها خصوصاً السلطات السوريّة لأنّ التجربة المستوردة أقوى من النصوص وتحتمل الحذف والخطأ. هكذا وصلنا بالإتفاق/الدستور الى محاور ثلاث: المحور الماروني موزّعاً بين المحورين السنّي والشيعي. وصار الدستور مثلثاً متساوي الأضلاع، تشوّه عند التطبيق فبدت أضلاعه غير متساوية وصار مربعاً أو دائرة مشوّهة ولم يعد لشكل الحكم ملامح راسخة، وكأنّه نصّ مع وقف التنفيذ. وقف التنفيذ يعني الوصول الى الوطن الكرة التي تتقاذفها المرجعيات السياسية الطائفية لترسيخ دكتاتوريات ونظام لا مثيل له في الدنيا تحت قبّعة الديمقراطية المسخ.
لم يعد ينظر إليه دستور المستقبل فلبنان “خرج” ؟؟؟ من الحرب ولم يدخل السلام بل يلحق بحروب المنطقة، وهو نصّ ينتظر تسوية الصراعات الطويلة. وسيمرّ وقت طويل في إنتظار مستقبل لم تتّضح معالمه النهائيّة بعد. هناك قناعة بأنّ الدولة لم تقم بعد، والمستقبل غير محدّد، وسيبقى لبنان أسير هذا المناخ المتأزّم سياسياً واقتصادياً بانتظار المجهول ولو تنبّه المسؤولون أنّ لدينا دستور نبت من ريادتنا في الحروب.
أستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه، لبنان
drnassim@hotmail.com