هبة إيران وصدقية لبنان عدنان منصور
لم يكن العرض الإيراني الذي تقدمت به الجمهورية الإسلامية الإيرانية عبر الأمين العام لمجلس الأمن القومي العميد علي شمخاني للبنان هو العرض الإيراني الأول كما يتصوّر البعض، إنما يأتي في إطار سلسلة من العروض الطويلة والعديدة التي تقدمت بها طهران رسمياً إلى الجانب اللبناني، وخلال سنوات، تتعلق بقطاعات اقتصادية وتجارية وعسكرية وتنموية وثقافية وعلمية وزراعية وكهربائية ونفطية وغيرها.
وإذا كان الجانب الإيراني قد أبدى مراراً وفي أكثر من مناسبة حرصه الشديد على تنمية العلاقات الثنائية بين لبنان وإيران من دون قيد أو شرط، أسوة بالعلاقات الإيرانية المتنامية سنة بعد سنة مع دول العالم، وبخاصة مع دول الجوار والمنطقة مثل تركيا والإمارات والباكستان وأرمينيا وأفغانستان والعراق وسورية وعمان وغيرها، إلا أنّ العلاقات الإيرانية ـ اللبنانية وللأسف الشديد لم ترق بعد إلى مستوى العلاقات السياسية الجيدة بين البلدين، لأنّ هناك على الساحة اللبنانية ونقولها بصراحة جهات سياسية لا تريد للعلاقات الثنائية أن تخرج عن إطارها الرسمي البروتوكولي لكي تأخذ أبعادها ومجالاتها الطبيعية، وإنما تريدها أن تبقى أسيرة نصوص الاتفاقيات والبروتوكولات ومذكرات التفاهم الموقعة بين لبنان وإيران منذ عام 1997 وحتى اليوم، والتي تجاوز عددها أكثر من 28 اتفاقية وبروتوكولاً ومذكرة تفاهم، من دون أن تجد لها طريقاً للتنفيذ.
إن قوى الضغط التي تؤثر في القرار اللبناني أعاقت عمل اللجنة الاقتصادية العليا المشتركة بين إيران ولبنان، وأجهضت اتفاقيات وأعاقت تنفيذ مشاريع تخدم مصلحة لبنان في الدرجة الأولى قبل مصلحة إيران، وتجاهلت عروضاً رسمية إيرانية عدة ترتبط مباشرة بقطاع الخدمات الحيوية للمواطن اللبناني كالكهرباء والمياه وبناء السدود وغيرها مثل صيانة طائرات الهليكوبتر وإمداد لبنان بالطاقة الكهربائية التي يحتاجها والتي تسد العجز الحاصل في الطاقة بتسهيلات ميسرة جداً.
لبنان لم يلتزم حتى بمواعيد الاجتماعات السنوية التي حددتها الاتفاقيات بين الطرفين. فاللجنة الاقتصادية المشتركة بقيت منذ عام 2001 ـ على رغم مراجعات الإيرانيين في هذا الشأن ـ وحتى عام 2008 مجمدة من دون أن تجتمع، علماً أن الاتفاقية بين البلدين تشدد على الاجتماع السنوي الدوري للجنة في عاصمة كل من البلدين.
لقد تعامل لبنان باستخفاف وبقليل من المسؤولية التي تتطلبها الاتفاقيات الموقعة مع إيران، بحيث أظهر الجانب اللبناني عدم الجدية في تطبيقها واحترامها خلاف الدول التي ارتبطت بإيران بلجان اقتصادية مشتركة يتم تنفيذها بكل جدية ودقة ومسؤولية.
لقد تقدمت إيران ومنذ سنوات بعروض مغرية عدة من أجل استجرار الكهرباء إلى لبنان. وبعد الاتفاق الذي تم أثناء الاجتماع الذي عقد بين ممثلي لبنان والعراق وسورية وإيران، وافقت إيران على أن تقوم بإدخال الكهرباء إلى شبكة الكهرباء اللبنانية على مرحلتين. وقد تبلغ وزير الخارجية ذلك رسمياً بموجب كتاب رسمي من سفير إيران في بيروت بتاريخ 27/7/2012 والذي أحاله الوزير على الفور إلى المراجع الرسمية العليا المختصة من دون أن يحظى بالرد المطلوب. لم تضع إيران أي شرط بل أبلغت الجانب اللبناني أنها على استعداد لفتح حساب في أي مصرف يحدده لبنان، وأن استيفاء قيمة الكهرباء المستجرة لا يستحق التوقف عنده في ظل الظروف الحالية التي يعيشها لبنان. فالمهم ـ يقول الإيرانيون ـ هو إطلاق عملية استجرار الكهرباء تخفيفاً لمعاناة اللبنانيين في هذا المجال. وعلى رغم كل ذلك فإن لبنان لم يتجاوب كما يجب مع العرض الإيراني لغاية في نفس أصحاب القرار.
إن استهداف الجيش اللبناني في هذه الظروف الصعبة ومحاولات جره إلى حرب استنزاف في هذه الأوقات المصيرية التي تحضر لها القوى الإرهابية التكفيرية في الداخل والخارج، يستدعي منا موقفاً وطنياً شجاعاً من أجل تعزيز قدراته العسكرية الدفاعية والردعية لتتجاوز المساعدات العسكرية المتواضعة التي اعتدنا عليها والتي تقدم إلى لبنان من دون تمكينه من مواجهة الأسلحة المتطورة التي بحوزة قوى العدوان من «إسرائيل» إلى المجموعات الإرهابية.
إن صدقية لبنان اليوم على المحك لجهة قبول الهبة العسكرية الإيرانية. إذ ليس هناك من مبرر لرفضها أو التلكؤ أو المماطلة أو إدخال العرض الإيراني في سوق المزايدات السياسية بين أخذ ورد وفعل ورد الفعل. فمن غير المقبول أن يقبل لبنان الهبات من دول عدة في العالم مع ما يرافق هذه الهبات وقبل أن تصل من الترحيب والتهليل والترويج والمديح، وأن يرفض في الوقت ذاته هبات من دولة صديقة قدمت للبنان الكثير الكثير من الدعم الكامل أثناء تعرض لبنان لاعتداءات «إسرائيل» ولا سيما أثناء عدوان عام 2006، وساهمت في شكل لافت في بناء بناه التحتية بعد العدوان، ووقفت بجانبه في المحافل الدولية تساند قضاياه مساندة كاملة مندون تحفظ.
إن رفض لبنان للهبة الإيرانية، أو التلكؤ أو تضييع الوقت لقبولها يجعلنا نتساءل عما إذا كان قرار الرفض ينبع من إرادة لبنانية تعبّر عن مصلحة لبنان وعن التوافق السياسي الذي تريده الأطراف السياسية اللبنانية كافة، أم أنه ينبع من إرادة خارجية، إقليمية كانت أم دولية تفرض على لبنان، مدعومة من فريق سياسي في الداخل اللبناني. فإذا كانت هناك جهة سياسية داخلية تؤثر سلباً في القرار السياسي لجهة قبول الهبة الإيرانية، فإن هناك بالمقابل جهة سياسية أخرى تستطيع بدورها لو أرادت أن تحفظ التوازن السياسي لجهة قبول الهبات من دول أخرى. فعندها من سيدفع الثمن؟!
هل وفرت نوعية المساعدات العسكرية التي منحت للبنان في السنوات الماضية، والمقدمة من جهات دولية عدة، القدرة العسكرية الكافية والرادعة التي يحتاجها؟ وهل أن هذه الدول لديها الرغبة الأكيدة في تعزيز القدرة القتالية الجوية والبرية بما فيه الكفاية وتزويد الجيش بالصواريخ النوعية الضرورية التي يحتاجها لمواجهة أي عدوان، أكان من «إسرائيل» أو من قبل المجموعات الإرهابية الضاغطة؟
إن الهبة الإيرانية غايتها تمكين الجيش اللبناني من مواجهة الأعمال الإرهابية التي تزداد شراسة وعنفاً. وهو أحوج ما يكون اليوم إلى هذه المساعدات. لذلك فإن مجلس الوزراء سيكون مدعواً للبت بها إيجاباً وبكل شجاعة من دون التذرع بحجج واهية أو الاختباء وراء قرار مجلس الأمن لعام 2007 الذي يحذّر من تصدير الأسلحة الإيرانية للخارج. فالحديث هنا عن هبة سبق لإيران أن عرضت العديد من المساعدات قبل القرار الدولي من دون أن تلقى التجاوب من الجانب اللبناني على هذه العروض.
آن للبنان أن يتحرر من عقدة الخوف والضغوط والتحذير والتهديد والتلويح بالعقوبات من قبل جهات دولية. لبنان اليوم، متاحة له الفرص لتطوير علاقاته وعلى مختلف الصعد مع إيران بجدية كاملة والخروج من الإطار البروتوكولي الضيق، أسوة بدول المنطقة والجوار التي تطور علاقاتها الثنائية من خلال اللجان الاقتصادية المشتركة والاستفادة من الخبرات الإيرانية في مختلف المجالات، وكسر الجمود والإحجام، والكف عن الحذر والخوف من دون مبرر. فهذا الإحجام ينعكس سلباً على لبنان أكثر من انعكاسه على إيران ويلحق الضرر به أكثر مما يلحقه بإيران.
فكيف نفهم تباطؤ العلاقات الثنائية اللبنانية ـ الإيرانية على رغم أنه يوم 25 نيسان 2012 أقر مجلس الوزراء تشكيل لجنة عليا مشتركة لبنانية ـ إيرانية تؤسس لـ«عهد جديد من التعاون البنّاء» بين البلدين في مختلف المجالات. هذه اللجنة التي تضم وزارات عدة جرى الموافقة على تشكيلها عام 2010 في عهد حكومة الشيخ سعد الحريري، لكن هذه اللجنة لم توضع موضع التنفيذ بسبب التقصير وخضوع البعض لذهنية رفض أي دعم إيراني لاعتبارات عدة ونكايات سياسية متأصلة في ذهن البعض في الوقت الذي نجد حجم التبادل بين إيران ودول المنطقة يزداد عاماً بعد عام. فعلى رغم الخلاف السياسي بين إيران والإمارات على الجزر الثلاث، فإن هذا لم يمنع حجم التبادل التجاري من الازدياد حيث وصل منذ سنوات إلى 44 مليار درهم وإن تراجع عام 2012 ليصل إلى 25 ملياراً، علماً أن حجم التبادل التجاري بين إيران ودول الخليج بلغ عام 2012 30 مليار دولار.
ومع العراق بلغ حجم التبادل في السنوات القليلة الماضية 6 مليارات دولار ليقفز عام 2013 إلى 12 ملياراً، ومن المتوقع له أن يصل العام المقبل إلى أكثر من 15 مليار دولار.
أما مع أفغانستان فإن حجم التبادل تضاعف عشر مرات خلال السنوات الخمس الماضية ليصل اليوم إلى 5 مليارات دولار.
أما مع سورية وعلى رغم الأوضاع الصعبة التي تشهدها، فإن استثمارات إيران في سورية زادت على ملياري دولار ويجري العمل على رفع حجم التبادل إلى 5 مليارات دولار.
تتطور العلاقات مع دول الجوار الأخرى مثل أرمينيا، وتركمانستان وعمان وتركيا. فحجم التبادل التجاري مع تركيا مثلاً وصل إلى 20 مليار دولار. ويتطلع البلدان إلى زيادة الحجم ليصل إلى 30 مليار دولار خلال السنوات الثلاث المقبلة، خصوصاً بعد زيارة أردوغان لطهران يوم 28/1/2014 وتوقيعه على وثيقة التعاون بين طهران وأنقرة، وتأكيده ضرورة تعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين، علماً أن عدد السياح الإيرانيين الذين يزورون تركيا يتجاوز سنوياً المليون سائح.
فماذا عن لبنان واللجنة الاقتصادية العليا المشتركة مع إيران؟! منذ عام 1997 وحتى عام 2007، استقبلت إيران ما يزيد على 54 وفداً لبنانياً رسمياً قاموا بزيارات رسمية إلى إيران وعلى مختلف المستويات: رؤساء جمهورية ومجلس نواب وحكومة ووزراء النقل والأشغال العامة، والاقتصاد، والثقافة، والخارجية، والزراعة والتربية والتعليم العالي، والتنمية الإدارية، والطاقة والمياه، والدفاع، العمل والشؤون الاجتماعية، والصحة بالإضافة إلى زيارات رسمية قامت بها وفود نيابية وروحية وسياسية وبلدية وحزبية، وممثلون عن مؤسسات رسمية لبنانية كالجامعة اللبنانية، ومجلس الإنماء والإعمار والبلديات.
لقد شهدت الفترة الممتدة من عام 1997 وحتى عام 2007 توقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم بين البلدين تناولت قطاعات عدة ذات الاهتمام المشترك كالقطاعات التجارية والصناعية والنفطية والمالية والزراعية والجمركية والمصرفية والنقل والصحة ودعم الاستثمارات المتبادلة والمشتركة، والإنماء والإعمار والتعاون بين غرف التجارة والصناعة لدى البلدين، وأيضاً في مجال التعاون العلمي والتربوي والتقني والأبحاث والتعاونيات والطاقة والمياه، بالإضافة إلى مذكرة تعاون بين وزارتي خارجية البلدين، ومذكرة تفاهم للتعاون الدفاعي بين وزارتي الدفاع في البلدين وتوقيع محضر زيارة تضمن اقتراحات متبادلة لتطوير التعاون الدفاعي والهندسي بين لبنان وإيران.
ونتساءل بعد كل هذه الاتفاقيات ومذكرات التفاهم، ما الذي نفذناه على الأرض أسوة بدول المنطقة بعد هذه السنوات حيث لم نستطع أن نقفز بحجم التبادل التجاري ليصل إلى مئة مليون دولار؟! فعلى من تقع المسؤولية؟
إن زيارة وزير الدفاع سمير مقبل إلى إيران ستثبت مرة أخرى مدى تجاوب لبنان مع العروض والمساعدات الإيرانية المقترحة. هذه الزيارة عليها أن لا تُصنف من باب رفع العتب، والظهور بمظهر أن لبنان جدي في التعاطي مع الهيئة الإيرانية حتى إذا ما تمت الزيارة يلجأ لبنان مجدداً لطرح الموضوع على مجلس الوزراء لاتخاذ القرار اللازم، عندها سيتلطى من لا يريد الهبة الإيرانية خلف الإجراءات السياسية القانونية وخلف الذرائع الواهية لبعض المعترضين داخل المجلس، ويكفي أن يعترض أحدهم لتنام الهبة في أدراج الدولة مثلما نام العرض الروسي على يد أحد «المخلصين الغيارى» على أمن ومصلحة لبنان وشعبه.
الوقت ليس وقت التذاكي والمراوغة وتضييع الفرص. إنها فرصة يستطيع بها لبنان أن يستفيد الكثير الكثير من إيران، ويكشف النقاب في ما بعد وبالمقارنة عن مدى نوعية المساعدات التي كان يتلقاها والتي لم تكن كافية لتشكل الحد الأدنى مما يحتاجه فعلياً لمواجهة اعتداءات «إسرائيل» المستمرة، وخطر المنظمات الإرهابية وضرباتها التي تهدده في أمنه واستقراره ووحدة أرضه وسلامة شعبه.
فأي قرار تنتظره طهران من لبنان؟!
(البناء)